نوى العام الماضي، الرئيس الأسبق بوتفليقة، الذي أزاحته ثورة شعبية عن الكرسي، خفض عدد كليات العلوم السياسية والبيطرة، وبرر وزير التعليم العالي ـ آنذاك ـ الأمر، بزيادة عدد الطلبة في هذين التخصصين، مقابل انخفاض الطلب في سوق العمل. كانت خطوة ارتجالية، سعوا إلى فرضها ـ غصباً ـ لكنها توقفت في منتصف الطريق. وفي لجة «تفكيرهم» في مصلحة الطلبة، وحرصهم على خلق توازن بين خريجي الجامعات واحتياجات البلد، أهملوا تفصيلاً مهماً؛ وهو ضرورة خفض كليات التاريخ، أو غلقها. والسبب لا يتعلق بعدم أهميتها، أو قلة نجاعة هذا التخصص، بل لأن التاريخ كان ولا يزال حكراً على السلطة ذاتها، هي من تكتب وتدون وتشوه، ترفع من قيمة أحداث وتلغي أخرى، وتبتكر ما يليق بتلميع صورتها.
منذ نشأة الجزائر المستقلة، لم يخرج التاريخ من المكاتب المكيفة، ومن الاجتماعات المغلقة، ومن إطلالة سريعة عما ينشر عن تاريخ البلد، سنجد أن الغالبية ممن يدعي صفة «مؤرخ» ليسوا سوى سياسيين أو قريبين من السياسة، فما هي أهمية كليات التاريخ إذا كان «المؤرخ الأوحد» هو السلطة؟
التاريخ هو غشاء بكارة السلطة، التي لا تمل من ترقيعه، كل مرة، رغبة منها في عذرية تعيد إليها ثقة شعبها. وفي الجزائر هو واحد من أعمدة الحكم، لا يكتمل نجاح سلطة، من دون تاريخ لين، تحيكه بيديها، تحوره، وتكسب منه شرعية، إلا أن يطرأ تغيير أو ثورة أخرى، فتنكشف اللعبة، ويُعاد كتابته، من جديد. إذا طالعنا أهم ما نشر من كتب يطلق عليها «تاريخية»، بخصوص ثورة التحرير، سنجد أن المؤلفين من المحسوبين على جبهة التحرير الوطني، أو من السائرين في دربها، من أبنائها أو المنشقين عنها، الذين كبروا في حجرها، وإذا حاولنا البحث عن وثائق أو منشورات عن ثورة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 مثلاً، سوف نصادف عسكريين أو مسؤولين سابقين، كلهم التزموا خط الدفاع عن النظام، ينصبون أمام القارئ سؤالاً مفخخاً: من تسبب في تلك الوقائع؟ يصغرون من قيمة الشعب، وينظرون إليه على أنه قاصر، لا يستحق أن يوصم ﺑ»الثائر»، بل إن هناك من بلغت بهم الجرأة أن وصفوا ثورة شعبية بتصفية حسابات سياسية، في أعلى هرم الحكم.
هذا التزييف للتاريخ استمر في التسعينيات، من القرن الماضي، ولم يعد اليوم ممكنا أن تكتمل الصورة، ونفهم ـ بموضوعية ـ خلفيات تلك الحرب الأهلية، وأول تضليل لها جاء من تنويع تسميتها: مأساة وطنية، سنوات حمراء، إلخ، ولا واحد من المؤرخين الرسميين، الذين يتقاضون «مناصب» مقابل كتاباتهم، تنازل عن غروره وسماها باسمها الحقيقي.
في ظل هذا الوضع، الذي تسوده الفوضى، ويتحكم فيه مندوبو السلطة في كتابة تاريخ الجزائر، يتبادر للأذهان: ما هي أهمية خريجي كليات التاريخ؟ ما المنفعة من أولئك الدكاترة أو حاملي الماجستير؟
في ظل هذا الوضع، الذي تسوده الفوضى، ويتحكم فيه مندوبو السلطة في كتابة تاريخ الجزائر، يتبادر للأذهان: ما هي أهمية خريجي كليات التاريخ؟ ما المنفعة من أولئك الدكاترة أو حاملي الماجستير؟ إنهم ممنوعون من المشاركة في كتابة تاريخ بلدهم، وفي الغالب لا يسمح لهم سوى الخوض في التاريخ القديم، لاسيما ما قبل الاستعمار، أي ما قبل 1830، عدا ذلك، فالأمر لا يعنيهم، هذا ما تود الجماعة الحاكمة إبلاغهم به، وكي تضمن سطوتها المطلقة، أجاز بوتفليقة، قبل ثماني سنوات قانونين غريبين، يمنع عن الكتاب والسينمائيين طرح أعمال تاريخية، دونما استشارة ما تُسمى «وزارة المجاهدين»، وأتت ثمار ذلك القانون، منع فيلم «العربي بن مهيدي»، العام الماضي، لقد صار التاريخ لعبة مغلقة، لا يقربه سوى الراسخين في نعيم السلطة، المستفيدين منها، والذين يغريهم تحريفه، كي تستمر الفضائل والمكاسب تهطل عليهم، ولا يهمهم في ذلك أنهم يعيثون فساداً، لا يقل قيمة عن الفسادين السياسي والمالي، اللذين ينخران جسد الجزائر.
تلفظ الأنثروبولوجي المالي أحمدو أمباتي با (1900-1991)، ذات مرة، بجملة، تحولت سريعاً إلى ما يُشبه بيانا، يتداولها مؤرخون، بدون تفكير مفادها: «عندما يموت شيخ في افريقيا، تحترق مكتبة»، ويقصد بالمكتبة التاريخ الجماعي، وهي جملة متسرعة، لا سند لها، فالتاريخ تصنعه الجماعات، لا الأفراد، ثم تقبره السلطة أو تمحوه، تطبق عليه نظرية «الكل أو لا شيء»، لا تشغل بالها بالانتقاء والتصفية، أخذ ما يناسبها وإزاحة ما يُسيء إليها، بل تمحو كل شيء، كي تعيد كتابته، بما يريح بالها، ويعينها على الظهور في ثوب المنتصر، ذلك هو الحاصل في الجزائر، لذلك تعلمنا أنه يوجد تاريخان: تاريخ رسمي وآخر في سلة الممحيات.
صدرت، قبل أيام، مذكرة توقيف دولية في حق الجنرال المتقاعد خالد نزار، في خضم صراع الأجنحة الدائر، عقب ثورة 22 فبراير/شباط الماضي، وإلى هذا الحد القضية لا تعنينا، ولكن المفارقة أن هذا خالد نزار دائماً ما صور على أنه جنرال ومتورط في جرائم وفضائح، ونادراً ما تحدثنا عن جرائمه الثقافية، فقد احتكر، طوال سنين، كتابة التاريخ المعاصر في الجزائر، احتكر كتابة ثورة 5 أكتوبر 1988، والتعليق عليها، وما تلاها من حرب التسعينيات، وكلما تعب من التأليف والنشر، تفرد بالشاشات في التلفزيون، أو بصفحات الجرائد، وواصل متعته في تحوير التاريخ وتبرئة السلطة من كل ما يجري، واتهام «مجهولين» بالمصائب التي تعرفها البلاد. إن ما فعله خالد نزار، ومن مثله، يحيل إلى تعديل جملة أحمدو أمباتي با، فكلما دُفن حاكم، لمعت الحقيقة، واستعادت كتابة التاريخ توازنها. كلما اجتمع شعب، صنع تاريخاً، وكلما تدخلت يد السلطة فيها، تحول التاريخ إلى خيانة، لذلك فإن تاريخ الجزائر، منذ 1962، لم يتحرر من رائحة البارود، مازلنا ـ لحد الساعة ـ لم نتفق على من هو البطل ومن هو العميل، والأمر ينسحب على ثورة 22 فبراير الأخيرة، فقد عجلت الجبهة الحاكمة في تدوين القناعات، ومحو أخرى، كي تدفع بأسماء قديمة إلى الواجهة، وسحب البساط من تحت أرجل الثوريين الحقيقيين، في هذا الجو الصدامي، نعود إلى سؤالنا الافتتاحي: ما هي فائدة كليات التاريخ إذا كانت تنتظر من يكتب التاريخ نيابة عنها؟
القدس العربي