سواء تكلّم النص عن الذات أو تكلم عن الآخر فهو يعني الذات والآخر في آن. فالذات التي تحدد الآخر إنما تحدد نفسها بالنسبة إليه. والفكر الغربي اليوم يمثّل لنا نحن العرب إشكالية ثقافية ومعرفية: ثقافية لأنّه صانع الحداثة، ومعرفية لأنه صاحب فصل المقال بين التقدم والتخلف.
لا أريد هنا الكلام على صراع ثقافات فهذا تعميم استنفد الجدل فيه حتى تحول إلى جدال عقيم.
صراع الثقافات على حد تعبير غونتر غراس اختراع من قبل الأصوليين “الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية”.الأصولية الغربية يحكمها الشعور بالهيمنة والتفوق، والأصولية الإسلامية يحركها الشعور بالنقص والحاجة إلى التعويض.
بنية عميقة
الهدف من هذه التمثيلات هو الإجابة عن السؤال التالي: هل ثمة بنية عميقة –deep structure بلغة تشومسكي- تَشْغَلُها التنميطات السلبية في تمثيلات “الآخر” في الفكر الغربي؟
من المحقق أن التنميطات السلبية مازالت تسهم في تفعيل الخطاب الغربي عن الآخر العربي، وأن الأصولية الإسلامية المستفزة تمارس دورها الرئيسي في هذا التفعيل.
والمقصود من هذه التنميطات التأكيد على وجود خصائص جوهرانية، أو قل طبائع ثابتة للآخر، تعزز التصورات المسبقة عنه حيث يمكن الحط من شأنه عن طريق ما يدعى بـ”الشيطنة” demonization أي تحويل صورة الآخر إلى رمز للشر المطلق.
ولا شك في أن المركزية الأوروبية يمكن إدراجها ضمن نزعة أشمل منها هي المركزية الإثنية، ونعني بها الميل إلى الحكم على خصائص الثقافات الأخرى من موقع المجموعة الإثنية التي ينتمي إليها المراقب. وغالبا ما تكون الأحكام الثقافية الحضارية التي يسفر عنها هذا التقييم للآخر سلبية إلى حد الحط عمدا من شأن الثقافات المغايرة.
وبهذا المعنى تصبح المركزية الأوروبية شكلا من أشكال المركزية الإثنية، ينطلق من فكرة تكرس أوروبا مركزا للعالم وتعتبر ثقافتها متفوقة على الآخرين.
ولعل من أبرز الأمثلة على الفكر الذي تتحكم فيه النزعة المركزية الأوروبية زعم هيغل أن أفريقيا لا تشكل جزءا من العالم، وزعم ماركس بعده بسنوات أن الهند ليس لها تاريخ وأنّ من مآثر الاستعمار البريطاني أنه سَيُدْخِلُ شبه القارّة الهندية في التاريخ الأوروبي.
بإلغاء التّاريخ المغاير إذن توفر النزعة الأوروبية للباحث والناقد والمؤرخ الغربي فرصة اللجوء عن وعي أو لاوعي، إلى كل ما يراه من السبل لإلغاء الآخر المختلف وترسيخ هيمنته عليه.
وبهذا الإلغاء الذي يبدأ بحق القوة ليتحوّل إلى قوة الحق، يضفي المشروعية على تصوره للآخر ويظهر هذا التصور كحقيقة كونية لا يرقى إليها الشك.
ولعل من أبرز مؤثرات النزعة المركزية الأوروبية، كما يبين خوسيه راباسا RABASA أن خارطة العالم التي رسمها الرحالة، والجغرافيون الأوروبيون أكّدت أن قارة أوروبا هي مركز ومصدر المعنى الحضاري الثقافي ومصدر الغنى المكاني للعالم بأسره. فهؤلاء الرحالة هم الذين يطلقون الأسماء التي تروق لهم على مختلف بقاع الأرض.
وبهذا الاعتبار يتحول العالم العربي “المكتشف” إلى “شرق أدنى” و”شرق أوسط” يحدد إسمه الجغرافي الطابع مدى قرب أو بعد هذا الشرق عن أوروبا.
وعلى الرغم من أن هذه المصطلحات المعترف بها والمقبولة من قبل العالم العربي لا تصمد للمراجعة الحقيقية المدققة فإن المناهج الدراسية تتداولها بقوة الاستمرار ودون تمحيص أو إعادة نظر.
ولنأخذ مصطلح “الشرق الأدنى” على سبيل المثال، ما المقصود منه؟ وما مدى اختلافه عنن مصطلح “الشرق الأوسط” الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه مرادف له؟ ولماذا يستعمل المصطلحان وكأنهما يشيران إلى معنى واحد مشترك؟
الجواب عن ذلك أن “الشرق الأدنى” مصطلح أقدم تاريخيا من مصطلح “الشرق الأوسط”. كما أنه مصطلح غير محدد ويشير إلى مجموعة من الدول بدءا من مصر وانتهاء بإيران. وبعبارة أخرى فإنه يفترض أن يغطي مساحة جغرافية تمتد من شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية وبحر إيجه حتى يصل إلى الهند.
ولم تكن الدراسات الأوروبية والأميركية تشمل بعبارة “الشرق الأوسط” إيران باعتبارها تشكل جزءا منه فحسب، بل تعدتها إلى أفغانستان والتيبت وحتى بورما.
أما مصطلح “الشرق الأدنى” فقد اقتصر معناه على تركيا ودول البلقان. كما أن مصطلح “الشرق الأقصى” ملتبس بدوره، ويذكرنا بالمصطلحين آنفي الذكر من حيث الدقة، فهو يشير عموما إلى ما يسمى بـ”الشرق”.
وهذا الشرق لا يقتصر معناه على الشرق العربي بل يشمل دول شرق وجنوب شرق آسيا كالصين واليابان وكوريا وتايلاند.
المركز والأيديولوجيا
آية ذلك أن هذه المصطلحات أو قل أدوات البحث المعرفي غربية المنشأ والدلالة، صكّت وشاعت وانتشرت رغم افتقارها إلى الدقة، ولكنها لأسباب تتصل بقوة المركز وهيمنته وكونه صانعا لتاريخ العالم، صارت مصطلحات مألوفة تستمد شرعيتها منه.
وهذا الاتجاه يبدو واضحا في الإعلام الغربي عموما عندما توصف الدول العربية بأنها “جيران إسرائيل” أو عندما يتردد كلام عن ضرورة إحلال السلام بين إسرائيل وجيرانها. فكأن هذه المنطقة الحضارية بأكملها لا وجود لها يتعدى الوجود السكاني الديمغرافي، فهي تستمد هويتها من كونها مجاورة للدولة العبرية. وهكذا ينقلب المصطلح الجغرافي المنزع إلى آخر تستبطنه الأيديولوجيا.
ويمكن القول إن فكرة أوروبا التي تمثل وحدة حضارية جامعة مانعة تمثل مركز العالم وتدل على تفوق المركز على الأطراف، تبلورت واكتملت في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر. وقد تعززت هذه الفكرة على نحو تزامن مع نجاح حركة الاكتشافات الجغرافية والاستعمار والتجارة، وما رافق ذلك من رسوخ السلطة الفكرية والمؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات التي أسسها المركز الأوروبي في الأطراف، فتمكن بذلك من إحلال القيم الحضارية الأوروبية، محل القيم المحلية. ويبين إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” كيف أن النزعة المركزية الأوروبية لم تقتصر على التأثير في العرب والمسلمين فحسب، بل أدت إلى صناعة تكوينات ثقافية بديلة تنسجم وتصوّر الغرب عن الشرق في مرحلة ما بعد عصر النهضة.
كما رأى بعض دارسي الحضارة أن الأنثروبولوجيا، علم الإنسان الذي يبحث في أصول الجنس البشري وأعراقه ومعتقداته وعاداته بدأ كشكل خام من أشكال البحث المعرفي الذي لم يكن قائما قبل حركة الاستعمار وما رافقها من مفاهيم مركزية شملت المعرفة والحضارة معا.
وقد كانت صناعة شرق مغاير للغرب، يمتلك خصائص عنصرية ثابتة لا تتغير، إحدى نتائج هذه الأنثروبولوجيا الاستشراقية المنزع والتي كشف عنها إدوارد سعيد الذي انطلق في نقده من فكرة ميشيل فوكو حول علاقة شرعية المعرفة بالقوة، مبرزا خطل مفاهيم شائعة مثل “العقل العربي” و”العقلية العربية” و”النفسية العربية”، وغير ذلك من المصطلحات ذات الطابع الجوهراني الذي يصطنع نقاط المغايرة اصطناعا فيفسد البحث الذي يزعم لنفسه نشدان الموضوعية، وهذا يعود إلى كونها صادرة عن المركز الأوروبي المهيمن الذي فرضها على الأطراف المهيمن عليها فصارت هوامش ملحقة به بصرف النظر عن مجانبة الحقيقة والواقع.
النموج الآري
وإذا استثنينا أبحاثا شهيرة مثل كتاب “الغصن الذهبي” للسير جيمس فريزر الذي عرّف جبرا إبراهيم جبرا القراء به، وصدرت ترجمته إلى العربية ضمن مشروع “كلمة”، وهو سفر ضخم يعقد مقارنات بين ثقافات مختلفة بهدف البرهنة على وجود نقاط تشابه تجمع بينها، فإن الأنثروبولوجيا الثقافية التي ازدهرت في مستهل القرن التاسع عشر أفرزت نظاما تراتبيا بين الأعراق والأجناس البشرية يمكن اعتباره أحد أعمدة الفكر العنصري.
وفي تلك الفترة ظهرت بفعل هيمنة المركزية الأوروبية فكرة عنصرية خطيرة مفادها أن الحضارة الإغريقية كما تتمثل في المناهج الدراسية الغربية هي في حقيقتها أوروبية أو بالأحرى آرية تعكس ما يدعى بـ”النموذج الآري”. ولكن هذا النموذج كما يبينه الباحث البريطاني مارتن برنال في كتابه “أثينا السوداء” تمت عملية تلفيقه من قبل الباحثين العنصريين في القرن التاسع عشر عندما أصرّوا على حدوث غزو آري من الشمال (لا تشير إليه المصادر التاريخية إطلاقا). وهكذا أصبحت حضارة اليونان (الكلاسيكية) أوروبية المنزع، بينما ألح الباحثون أنفسهم على نفي الدور التأسيسي الذي قامت به الحضارتان المصرية والفينيقية.
ويشير برنال إلى أن عام 1785 هو الذي حدثت فيه عملية تلفيق التاريخ هذه. ففي ذلك العام بدأ الترويج للمشروع العنصري الذي يؤكد النزعة المركزية الأوروبية والذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مناهج التعليم التي مازالت تنكر أو تتجاهل الجذور الآسيوية والأفريقية للحضارة اليونانية “الكلاسيكية” على مدى قرنين من الزمان.
والحال أن النموذج الآري يعود بأصوله إلى عام 1786 عندما أعلن المستشرق والعالم اللغوي السير وليم جونز عن “اكتشاف مذهل” مفاده أن اللاتينية واليونانية والألمانية والسنسكريتية لغات تجمعها رابطة القرابة. كما أشار جونز إلى أن الشعوب الناطقة بهذه اللغات تمتّ إلى أصل عرقي واحد يشمل الفرس والهنود.
وقد برهن علماء الأنثروبولوجيا في وقت لاحق على خطأ هذه الفكرة التي تحول القرابة اللغوية إلى أصل عرقي جامع مانع. وعلى الرغم من خطل “النموذج الآري” الذي أدرج إيران والهند في نطاق الثقافة الآرية، وأخفق في التمييز بين مفهومي الثقافة والعرق، فقد تسربت فكرة العرق الآري هذه إلى الوعي القومي الإيراني، فأسهم ذلك في نشوء ضرب جديد من الشعوبية المتعالية على العرب، ضرب اعتنقه مثقفون كان على رأسهم صادق هدايت أحد أبرز كتاب إيران المعاصرين وصاحب رواية “البومة العمياء”.
كما كان لهذه النزعة العرقية امتداداتها في الأيديولوجيا التوسعية المتخفية حينا والسافرة حينا آخر وراء قناع جمهورية إيران الإسلامية. وغني عن القول إن أكثر من باحث يُعتَدُّ به قد بين بما لا يحتمل اللبس أن النمو الحضاري الذي شهدته إيران والهند نمو مغاير كليا لنمو ألمانيا.
مفهوم الحضارة المسيحية اليهودية
تزامن مع عملية التلفيق هذه ظهور مفهوم الحضارة “المسيحية اليهودية” المستمد من العهد القديم والذي يصدر عن منطلقات مناهضة لحضارة سوريا ومصر وبلاد ما بين النهرين في الفترة التي سبقت الإسلام وأعقبته.
وهذا المفهوم يمثّل بدوره وجها آخر من وجوه النزعة المركزية الأوروبية التي أثّرت ومازالت تؤثر في بلورة المناهج الدراسية. وثمة أمثلة عديدة على طبيعة الترسانة اللغوية الاصطلاحية التي ارتبطت بهذا المفهوم والتي تؤثر باستمرار على الطريقة التي تنظر فيها الأنظمة المعرفية الغربية الصنع إلى العالمين العربي والإسلامي.
ولعل من أشد الكلمات الاصطلاحية هذه إثارة للانتباه كلمة Philistine فلستيني (أي فلسطيني غير متمدن) التي تعتبر بصفتها هذه نعتا يستعمل للدلالة على موصوف، وأما الاسم أو المصدر فيصبح Philistinism أي النزعة الفلستينية (غير المتمدنة). وقد اخترت هذا المصطلح لأنه يصلح للكشف عن حقل شبه مهمل في دراسات المركزية الأوروبية يتعلق بالكلمات ذات المحمول المعرفي القائم على الهوى أو الغرض الأيديولوجي أو التحامل أي الحكم المسبق والمستمد من كتاب ديني.
هذا النوع من الكلمات، بما ينطوي عليه من انحيازات عنصرية مسبقة، يؤدي دورا مهما في بلورة البنية العميقة، بنية اللاوعي الثاوية، بل لعله يمثل أحد الأعمدة التي ينهض عليها تصور تربوي ممأسس وينطوي على حكم أخلاقي. والمشكلة في هذا التصور تكمن في خضوعه للرواية التوارتية مسبقة الصنع. فكلمة (فلسطيني.. غير متمدن) هنا لا تشير إلى (الفلستيني) الذي عاش في فلسطين القديمة فحسب، بل إن معناها الاصطلاحي المستمد من العهد القديم يشير أيضا إلى كل من يظهر شعورا بالعداء أو عدم الاهتمام تجاه القيم الجمالية والفكرية عموما.
وتعليل وجود هذا النوع من الكلمات التي تنطوي على تحامل مسبق هو أنها تنتمي إلى ترسانة من المفردات العبرانية المنشأ والمنزع والقائمة على تصور أيديولوجي وعنصري.
وتكمن المفارقة في ذلك أن الدور العربي الإسلامي في تكوين الحضارة الغربية بدءا من عصر النهضة في أوروبا كان في جوهره يمثل انتقالا من مرحلة هيمنت خلالها فلسفة ابن سينا إلى مرحلة أخرى سيطرت فيها فلسفة ابن رشد التي أعادت ربط أوروبا بالتراث الهليني بأفكاره وتأويلاته التي صارت أساسا للتقدم العلمي.
وهذا الاستبعاد للدور العربي الإسلامي الذي لا تفرد له تواريخ الفلسفة الغربية أكثر من هوامش ثانوية، ليس عفويا. فقد اقترن بإبراز مبالغ فيه للنزعة العبرانية. وهو في أحد معانيه حصيلة قراءة حرفية (أصولية) للعهد القديم باعتباره كتابا في التاريخ.
بل إن النزعة العبرانية هذه شأن النزعة (الفلستينية) استقر معناها الذي يفترض وجود علاقة تفاضلية تبرز الأولى باعتبارها تدلّ على الحضارة والثانية باعتبارها تدل على الهمجية، استقر في النقد الإنكليزي مع ظهور كتاب “الثقافة والفوضى” لناقد أدبي واجتماعي بارز هو ماثيو أرنولد (1822 – 1888) الذي يُعدّ أحد أشد أدباء الإنكليزية تأثيرا. ففي هذا الكتاب يقدم أرنولد التعريف التالي للنزعة الفلستينية:“أصحاب النزعة الفلستينية Philistinism هم الذين يعتقدون أن الثروة وحدها هي التي تدل على العظمة، ضاربين عرض الحائط بالفن والجمال والحضارة أو الأشياء الروحية عموما”.
وأما النزعة العبرانية Hebrism فهو يعرفها بمقارنتها مع النزعة الهلينية، يقول “إن الهدف النهائي لكل من النزعتين الهلينية والعبرانية كما هو شأن جميع الأنظمة الروحية العظمى، هدف واحد بلا شك، هذا الهدف هو تحقيق كمال الإنسان أو خلاصه. بل إن اللغة التي يعتمدها كل من هاتين النزعتين في تبصيرنا بكيفية الوصول إلى هذا الهدف كثيرا ما تكون متطابقة أو متماهية مع هذين النظامين. إن الفكرة الأبرز والأعظم في النزعة الهلينية إنما تكمن في رؤية الأشياء كما هي في الواقع. وأما الفكرة الأبرز والأعظم في النزعة العبرانية فهي تكمن في السلوك والطاعة. ولا يوجد شيء قادر على محو هذا الفارق بين النزعتين”. ويضيف “إن الفكرة المهيمنة في النزعة الهلينية تكمن في عفوية الوعي بينما تكمن فيما يتعلق بالنزعة العبرانية في صرامة الضمير”.
هذه المفاضلة، أو قل المقارنة بين هاتين النزعتين تهدف إلى تأكيد التكامل بينهما. وهي بهذا الاعتبار من المحاولات المهمة التي حاول بها هذا الناقد الذي يعتبر أحد مؤسسي النقد الثقافي، القيام بعملية توليف بين الفكر والعمل.
ولا ريب في أن خطورة مشروعه الثقافي تتجلى في الطريقة التي أثّر بها على لغة النقد والفكر الأنجلوساكسوني عندما أصبحت بعض أدوات النظرية الثقافية هذه عبارة عن مفردات مشحونة بأبعاد اصطلاحية متحاملة على الثقافة العربية الإسلامية بشكل مسبق الصنع. بل إن خصومتها الاستباقية مع النزعة “الفلستينية” التي يعتبرها ماثيو أرنولد صنوا للهمجية والبربرية والبعد عن روح الحضارة المحتفية بالفن والجمال ليست مجرد رأي عابر متضمن في كتاب، وإنما هي خصومة تختزنها المعاني الاصطلاحية المستدامة التي أسبغتها على هذه الكلمات، فإذا بها تكرس حضور عداء أيديولوجي مضمر لا يمكن لمشروع يحتضن حوارا بين الحضارات تجاهله دون أن يعتبر غير منزه عن الهوى.
واللافت أن أرنولد كان علما من أعلام النزعة الإنسانية (الهيومانيزم) فضلا عن أنه كان يهاجم التعصب الفكري باستمرار. وقد يكون افتتانه الشديد بالكتاب المقدس الذي اعتبره ينطوي على الأهمية نفسها التي ينطوي عليها الشعر من حيث كونه وسيلة للتغلب على ما سماه بـ”الكساح الروحي” هو الذي جعله يبدي هذا القدر من الانحياز والتحامل المسبق تجاه سكان فلسطين الأصليين.
غير أن معاني الكلمات لا تتغير بسهولة. فعلى الرغم من أن الاكتشافات الآثارية بينت بجلاء أن قراءة العهد القديم ككتاب تاريخي عملية غير مجدية إطلاقا، وذلك لأسباب كثيرة لعل في طليعتها حقيقة أن الحفريات التي قام بها الآثاريون لم تسفر عن نتائج تعزز صحة قراءة هذا الكتاب باعتباره تاريخا، فقد ظل الباحثون متمسكين بهذه المصطلحات. وبعبارة أخرى فإن هذا الانحياز الأيديولوجي الذي تفند مضامينه الاكتشافات الجديدة التي تؤكد محدودية الإسهام العبراني إذا لم نقل غيابه عن تاريخ فلسطين فضلا عن غلبة العنصر الأسطوري المختلق فيه على الحقائق التي لا يرقى إليها الشك، مازال كامنا في صميم الثقافة البريطانية.
وقد أصدر باحث بريطاني متمكن ويتمتع بسمعة أكاديمية جيدة، اسمه كيث ويتلام كتابا خطيرا يعبر عن هذا الوضع أفضل تعبير، أطلق عليه عنوانا مثيرا هو “اختراع إسرائيل القديمة: إسكات صوت التاريخ الفلسطيني”.
ويحاول الباحث في هذا الكتاب الكشف عن المفارقات التي تنطوي عليها مواقف عدد كبير من المؤرخين الذين مازالوا متشبثين بانحيازاتهم المسبقة في ما يتعلق بالدور العبراني في فلسطين على الرغم من أن الاكتشافات الآثارية كشفت وتكشف بما لا يدع مجالا للشك عن أن “العهد القديم” لا يصلح للقراءة ككتاب في التاريخ.
فالإشارات التاريخية والجغرافية فيه وما تنطوي عليه من أخطاء مازالت تخيب آمال الآثاريين باستمرار. بل إن النتائج التي توصلوا إليها كشفت عن ضرورة إعادة النظر في التصور العبراني الذي مازال يسبغ على الموضوعية التي يفترض أن يتسم بها البحث التاريخي، نزعة عنصرية معادية لكل ما هو غير عبراني في فلسطين. ولكن لغة التحامل الأيديولوجية المنزع والمسبقة الصنع ظلت تسيطر بنزعتها الأسطورية أو قل الخرافية على كتابات العديد من المؤرخين.
حضور النزعة العبرانية
وأودّ هنا أن أشير إلى مثال على حضور النزعة العبرانية في شعر لورد بايرون شاعر الرومانتيكية الإنكليزي الشهير والذي توفي بعد مولد الناقد ماثيو أرنولد بعامين.
هذه النزعة ليست جمالية صرفة كما يتبادر لقارئ ديوانه “ألحان عبرية” للوهلة الأولى، فهو يقدم فيه شخصية “سنحاريب” الملك الآشوري الذي يصفه بالذئب المنحدر من أعالي الجبال ليدمر الحضارة المتمثلة في التراث العبري، وبذلك يصبح انتصار الآشوريين على العبرانيين رمزا لهزيمة الحضارة.
وتكمن المفارقة في أن سنحاريب الذي عاش في (704- 681) قبل الميلاد، شخصية تاريخية تختلف اختلافا جذريا عن سنحاريب اللورد بايرون. فهو ملك آشوري عظيم عرف بفتوحاته التي اتجهت غربا وشمالا ووصلت إلى مدينة القدس. وتشير المصادر إلى دوره العمراني الكبير في استكمال إنشاء بابل، وتشييد مدينتي نينوى وطرسوس. كما تشير إلى قيامه ببناء معبد في مدينة أثينا.
ويذكر أن بايرون كتب ديوانه “ألحان عبرية” لكي تنشد قصائده في معبد يهودي. وهناك تعليل لذلك قرأته قبل سنوات، مفاده أن حاجته الماسة للمال دعته لكتابة هذه الأناشيد.
الدور العربي الإسلامي المنسي
هناك أخيرا الوجه الثالث للنزعة المركزية الأوروبية الذي يتمثل في ما سأدعوه بمرض فقدان الذاكرة الحضارية (الأمنيزيا الحضارية). فالمناهج الدراسية مازالت تطرح مفهوم الحضارة المسيحية اليهودية غير المشفوع بمراجعة أو إعادة نظر نقدية، وبذلك فهي تهمل وجود ثلاثة مصادر وليس مصدرين فقط للحضارة الغربية. وأساس هذا الطرح هو أن الحضارة الغربية ذات جذر كلاسيكي (يوناني – روماني) وآخر مسيحي يهودي، وأن العناصر الكلاسيكية ضاعت حتى أعيد اكتشافها مرة أخرى خلال عصر النهضة. ولكن الحقيقة كما يشير إليها كتاب بعنوان “الماضي المشترك” من تأليف E. L. Ranelagh هي أن “ثقافة العصر الوسيط توجب على الغربيين الاعتراف بأن الحضارة الغربية ذات جذر ثلاثي: يوناني ولاتيني وعربي.
صحيح أن الأدب اليوناني وصل إلى الغرب عن طريق الرومان وبواسطة اللغة اليونانية. وصحيح أن القسط الأعظم من معارف اليونان التي اشتملت على العلوم والفلسفة انتقل من البيزنطيين إلى العرب عن طريق الترجمة من اليونانية إلى العربية، ولكن العرب قاموا بدورهم في تطوير هذه المعارف التي نقلت إلى اللاتينية. بل إن مشاريع الترجمة التي أنجزت في إسبانيا وصقلية خلال القرن الثاني عشر كانت بمثابة الجسور التي نقلت تلك المعارف عبرها من العرب إلى أوروبا الغربية التي كانت متخلفة آنذاك”.
ويضيف المصدر: “إن ما يهمنا إلى حد كبير، نظرا لأنه ليس مألوفا، هو تراثنا العربي. إن الشعب الذي أطلق عليه في القرون الوسطى اسم “السراسنة” كان يشمل مجموعات عرقية مختلفة كان منها يونان وفرس وهنود وأقباط وأتراك وأرمن ويهود. وقد تمثلت الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية هذه الحضارات القديمة الغنية.
ولكن انتشار الإسلام السريع في القرن السابع الميلادي فرض عليها حضارة جديدة هي حضارة فاتحيهم التي عبرت عن نفسها بنمط عربي جديد من الحياة، حقيقته المركزية هي الإسلام، الدين الرسمي، ووسيطه في التعبير هو العربية لغة القرآن”.
هذا الطرح لضرورة الاعتراف بالجذر الثالث العربي- الإسلامي للحضارة الغربية، والذي قد يبدو للقارئ العربي بديهيا مازال خارج المناهج الدراسية المعتمدة في أوروبا والولايات المتحدة. كما أن دور الحضارات السورية والمصرية القديمة في صنع حضارة اليونان القديمة مازال فكرة خلافية بعيدة عن تلك المناهج. آية ذلك أن حوار الحضارات الوهمي حتى الآن، لا يمكن أن يصبح مجديا ما لم يعاد النظر في البنية العميقة لتمثيلات “الآخر” في الفكر الغربي، لأن هذه البنية هي إحدى مصادر الوعي الأوروبي وأدواته اللغوية بامتداداتها الثقافية والحضارية.
خلدون الشمعة
صحيفة العرب اللندنية