يعد النظام السياسي للدولة الحديثة واحدا من اهم الركائز الأساسية في عالمنا اليوم، حيث يُفترض أن تعمل متانة هذه الركائز على وضع نظام سياسي قادر على توحيد المجتمع، في ظروف طبيعية من الاستقرار الاجتماعي، ومن خلال عملية سياسية، تدين بولائها للوطن في إطار دولة موحدة، ترتكز على أهمية دور التنمية الاقتصادية والمجتمعية، وتتفق على أهدافها المشتركة جميع الأطراف التي تمثل المجتمع.
وهذا ما لم يجر عمله وتنفيذه بعد تنفيذ الغرب لمخطط تغيير النظام في العراق. حيث فضلت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها التركيز على الهوية العرقية والطائفية على حساب الإحساس بالهوية العراقية. فكانت نتيجة هذا الاختيار، وقوع البلاد في فخ الطائفية والتقسيم، ودخوله بالتالي في دوامة الصراعات الفئوية، نتيجة لغياب الدولة وانقباضها، وتعدد مراكز النفوذ التي تدعي شرعيتها بالدفاع عن حقوقها المذهبية في حكم العراق والتصرف بثرواته.
وعلى الرغم من الجهود الغربية المبذولة لإطغاء صبغة الديمقراطية على العملية السياسية طوال الستة عشر عاما من عمر النظام الجديد، إلا ان تشابه الأهداف الفئوية الضيقة لرؤساء الحكومات المتتابعة ووقوفهم على طرف النقيض من غالبية القادة الذين حكموا العراق منذ تأسيس دولته الحديثة، أكد على الإرادة في الاستمرار والبقاء في نفس الاتجاهات التي رسمت للعراق الجديد.
وبعد مرور أكثر من عقد ونصف على تغيير النظام السابق، فشلت العملية السياسية في تطوير نظام وطني للحكم، قابل للوصول إلى ميثاق سياسي يقوم على المواطنة أكثر منه على الهويات الطائفية. حيث ركّز النظام الجديد في بنائه للمجتمع في القواعد والممارسات الخاصة بالعملية السياسية، على بناء الدولة العميقة التي تتيح ممارسة الأجندة الخاصة، أكثر من التركيز على إنهاء الانقسامات الطائفية، الأمر الذي أدى إلى تشجيع سياسات الهوية والاختلاف الطائفي ليزداد الانقسام بين السنة والشيعة من جهة وانزعاج المنافسين على الرغم من انخراطهم المشترك لنفس الطائفة.
وعلى الرغم من هذه القيادات العائدة من المنفى، قد تم دفعها إلى استغلال الطائفية لخلق جمهور ناخبين وحاضنة اجتماعية جديدة، من خلال التشديد على خطاب حكم الأغلبية ومنع الظلم والتمييز والحيلولة دون ظهور دكتاتورية جديدة، بيد ان رؤساء الحكومات التي حكمت العراق سعت إلى توطيد سلطتها ونفوذها على السلطة والثروات. وأضحى التنافس على السلطة والثروات والمكانة هو الدافع وراء هذه التطورات في أسلوب الحكم. ولتمكّن رؤساء الحكومات المتتابعة من تعزيز سلطتهم، من خلال السيطرة على الأجهزة العسكرية والأمنية، وتوسيع دائرة النفوذ والدعم على حساب منافسيهم. حيث أثارت قدرة نوري المالكي في توطيد سلطته قلق منافسيه من خلال مصطلح «الدولة العميقة» الذي أضيف إلى القاموس السياسي العراقي في حلته المنقحة التي صدرت في 2008.
بعد مرور أكثر من عقد ونصف على تغيير النظام السابق، فشلت العملية السياسية في تطوير نظام وطني للحكم، قابل للوصول إلى ميثاق سياسي يقوم على المواطنة أكثر منه على الهويات الطائفية
ومنذ عام 2008، عمد نوري المالكي إلى بناء منظومته الخاصة في وزارات ودوائر الدولة. في الوقت الذي شرع حليفه هادي العامري من خلال تقاسم أتباعه على أغلبية المواقع الحساسة، لا سيما المرتبطة بوزارة الداخلية وفروعها الأمنية الخاصة.
ومنذ ذلك التاريخ، أرتبط حديث العراقيين فيما يتعلق بالفساد والطائفية مع خفايا وأسرار «الدولة العميقة»، بوصفها المسؤولة عن العديد من المشاكل الاجتماعية والأزمات السياسية، عن طريق أذرعها المسيطرة على إدارة واقتصاد البلاد، وقدرتها في التأثير على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ناهيك عن انعدام ارتباطها بسياسة البلاد وتبعيتها لإيران والأنظمة الخارجية وعلى حساب الدولة الرسمية، التي تعتمد الشفافية والنزاهة والمهنية، للحصول على المناصب والاستحقاقات وسيادة الدولة.
وبين حين وآخر تطفو فوق السطح ويعود الكلام عن إشكالية الدولة العميقة، بعد كل مشكلة سياسية تعصف بالعراق أو خلل يصيب توازن مصالح الأحزاب ومن يدعمها في الخارج. حيث أضرمت التعيينات الخاصة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء بتعيين مفتشين عموميين للعديد من الوزارات والمؤسسات الرسمية مواجهة محتدمة بين عادل عبد المهدي وأغلبية مجلس النواب، والذي أعتبر خطوة في طريق الاستمرار بعمل أليات الدولة العميقة، بعد قرار البرلمان بإلغاء مكاتب المفتشين العمومين وتفعيل دور الادعاء العام.
ان الأزمة الحالية التي يمر بها المشهد العراقي الذي تتنازعه مصالح وصراعات الأحزاب الطائفية هي تحصيل حاصل لطبيعة النظام السياسي المفروض على العراق والعراقيين. حيث ما كان لهذا النظام القدرة من البقاء والاستمرار بأسسه الطائفية، بوجود دولة المؤسسات، التي تعتمد على الشفافية والنزاهة والإخلاص للوطن. من هنا أصبح الرجوع إلى اسلوب صناعة اللوبيات الطائفية أو الحزبية أمرأ مهماً، لإعادة تدوير اسس الدولة العميقة والاستمرار في السلطة. وهذا ما يفسر أسباب تحذير زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لعادل عبد المهدي وتأكيده إلى ان قراره بتعيين واختيار طبقة خاصة من المفتشين العموميين يشكل «انحرافا عن الاستقلالية وبمثابة بناء جديد للدولة العميقة في العراق».
وهنا لابد من الإشارة إلى تحذير زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لعادل عبد المهدي، والتلويح باحتمال تصويت كتلة «سائرون» لإلغاء مكاتب المفتشين العمومين، وتفعيل دور ديوان الرقابة المالية الاتحادي وهيئة النزاهة. وهذا يعني وقف دعم التيار الصدري الذي يضم 54 مقعدا في البرلمان العراقي لرئيس الوزراء، مما قد يفتح الطريق للأحزاب السنية والشيعية للقيام بعزله من خلال التصويت في البرلمان، بحجة فشل عادل عبد المهدي في إدارة البلاد.
لا شك ان حملة الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي ضد حكومة عادل عبد المهدي، تهدف التغطية على فضائح تورطها في الترويج للمخدرات وإدارة قاعات الروليت والقمار في فنادق بغداد. ولا شك أيضا، ان لضعف أداء الحكومة وعجزها عن تحسين أوضاع العراق في مواجهة الفساد وعودة النازحين، ومن ثم سكوتها ورفضها فتح التحقيق لمعرفة أسباب العثور عن مئات الجثث المجهولة في محافظة بابل والمطالبة بفتح ملف المختطفين في سجون الميليشيات السرية هي حقيقة لا يمكن السكوت عليها.
في المقابل يبقى السؤال المُهم الذي يطرح نفسه، هو في توقيت أزمة المشهد السياسي العراقي، التي ترجمتها الصعوبات التي تواجه الحكومة، مع تصاعد حدة الصراع الأمريكي ـ الإيراني، وتأثيره المباشر على مستقبل أحزاب إيران في العراق، وغرابة توافقها مع إشكالية التزام حكومة عادل عبد المهدي الصمت، فيما يتعلق بمسلسل التفجيرات الغامضة التي طالت معسكرات ومخازن أسلحة المليشيات في معسكر الصقر جنوب العاصمة العراقية.
القدس العربي