لم تتصرف روسيا بعقلية الدب الروسي المعهودة في سوريا بل تصرفت في واقع الأمر بعقلية الثعلب، ونجحت نجاحاً باهراً في خداع قوى المعارضة السورية كلها، بالإضافة طبعاً إلى خداع الفصائل المسلحة وكل من يساندها من السوريين وغير السوريين. دعونا أولاً نتذكر الشعار الذي رفعته روسيا في أواخر شهر سبتمبر /أيلول عام 2015 قبيل غزوها لسوريا. لقد ملأ الروس الدنيا ضجيجاً وقتها بضرورة التدخل في سوريا للقضاء على داعش حصراً كأكبر خطر إرهابي يهدد العالم.
ولا شك أن الجميع وقتها كان سيرحب بهذه الخطوة الروسية، خاصة وأن الشعار الذي رفعه الروس شعار جذاب جداً، ألا وهو القضاء على الإرهاب. لكن كم من الجرائم البشعة وكم من المخططات الشريرة مرت على الشعوب تحت هذا الشعار الكاذب؟ لقد فعلها الأمريكيون من قبل مرات ومرات في العراق وأفغانستان، حيث رفعوا شعار محاربة الإرهاب بينما كان الهدف استعمارياً بامتياز لنهب ثروات العراق والسيطرة على أفغانستان الممر الهام إلى نفط وغاز بحر قزوين.
وقد سخرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس ذات يوم من الذين انخدعوا بالشعارات الأمريكية عندما قالت: «إنه النفط يا غبي».
ما حدا أحسن من حدا، صاح الروس، لماذا لا نرفع شعار القضاء على الإرهاب في سوريا للتغطية على الغزو الروسي الاستعماري الذي لا يختلف مطلقاً عن الغزو الروسي لأفغانستان أو الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان؟ لاحظوا أن الروس لم يتحدثوا ولم يهددوا مطلقاً بمهاجمة قوى المعارضة السورية عندما تدخلوا في سوريا، بل أعلنوا فقط أنهم سيستهدفون الدواعش، لكن مرت الأيام والأسابيع فلم يطلق الروس طلقة واحدة على الدواعش، إلا ربما لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، بينما راحوا يعملون عسكرياً وسياسياً على طرد كل فصائل المعارضة من المناطق التي تسيطر عليها وإعادتها إلى النظام. لقد كان القضاء على داعش كما كان بالنسبة لكل الذين تدخلوا في سوريا مجرد ستار أو شعار زائف لتحقيق أهداف أخرى تماماً.
كيف يمكن أن نصدق أن روسيا تريد القضاء على الدواعش في سوريا إذا كانت روسيا من أكثر الدول التي شحنت الدواعش إلى سوريا؟
والسؤال الكبير: كيف يمكن أن نصدق أن روسيا تريد القضاء على الدواعش في سوريا إذا كانت روسيا من أكثر الدول التي شحنت الدواعش إلى سوريا؟ جدير بالذكر أن الروس وكلوا شخصية كبيرة من أصول شرق أوسطية من قبل لشحن الدواعش الشيشانيين إلى سوريا. وكان ينسق عملياته من دمشق. تصوروا. يتظاهرون بمحاربة الدواعش، بينما هم أكبر المتاجرين بهم لأغراض قذرة.
وعندما بدأت روسيا تكشر عن أنيابها فعلاً في سوريا بعد أن صارت قواتها في سوريا بدأت تطرح مشاريع سياسية عبر مؤتمرات شهيرة في أستانا وسوتشي للقضاء تماماً على مقررات مؤتمر جنيف الدولي. وقد نجحت تماماً. من مازال يتذكر جنيف بعد أن مررت روسيا كل مخططاتها عبر استانا وسوتشي؟ ولعل أشهر شعار رفعته روسيا في سوريا شعار: «خفض التصعيد»، وهو في ظاهره شعار براق جذاب نفهم منه إعادة الأمن والأمان والاستقرار لسوريا والسوريين بعد سنوات من الصراع الدامي، لكن شيئاً فشيئاً بدأنا نكتشف أن الهدف الرئيسي مما يسمى بخفض التصعيد هو القضاء على كل فصائل المعارضة السورية التي تواجه النظام عسكرياً. فجأة اختفى جيش الإسلام الذي كان ظاهرياً يحاصر دمشق بعتاد عسكري قادر أن يحرر سوريا كلها. كيف؟ طبعاً بجهود روسية عسكرية وسياسية، ثم سقطت درعا بين ليلة وضحاها بموجب خفض التصعيد وتم شحن مقاتليها إلى إدلب، لكن ليس لحمايتهم، بل للقضاء عليهم لاحقاً بعد تنظيف سوريا من كل فصائل المعارضة. انظروا الآن مصير الفصائل التي ضحك عليها الروس وشحنوها إلى إدلب أين هي؟ لقد كانت إدلب بموجب لعبة خفض التصعيد المحشر الكبير لكل فصائل المعارضة كي يتم القضاء عليها دفعة واحدة. وهذا ما يحصل الآن. وكان جديراً بالمقاتلين الذين قبلوا بالذهاب إلى إدلب وقتها أن يرددوا: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»، أي بعد خروجهم من ريف دمشق ودرعا وباقي المناطق.
قد يقول البعض طبعاً إن المعارضة السورية التي قبلت بالخطط الروسية ومؤتمراتها، كمؤتمري أستانا وسوتشي، وما تبعها مما يسمى بعملية خفض التصعيد في مناطق الصراع بين النظام وقوات المعارضة، ربما لم تنخدع بالمخططات الروسية، بل كان مغلوباً على أمرها بفعل الوحشية الروسية أولاً، وثانياً بفعل ضغوط الدول الضامنة للاتفاقات وخاصة تركيا. وهذا طبعاً عذر أقبح من ذنب.
لهذا نقول أخيراً على ضوء الخديعة الروسية الكبرى في سوريا: احذروا دائماً الشعارات والأسماء البراقة، فالأسماء والشعارات التي تطلقها الدول على مشاريعها السياسية قد تكون خادعة إلى حد كبير…لا تصدقوا الأسماء والتوصيفات الإعلامية لهذا المشروع أو ذاك، فكلها تبدو جذابة، بينما في الواقع قد تكون كالأفاعي ناعمة الملمس لكن العطب في أنيابها. فقط قارنوا أخيراً بينما ما رفعته روسيا في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر عام ألفين وخمسة عشر من شعارات، وما فعلته في سوريا حتى الآن. وأخيراً للذين قبلوا بالمبادرات الروسية من قوى المعارضة والدول الضامنة كتركيا نقول: تعيشوا وتأكلوا غيرها!
القدس العربي