السودان دخل مرحلة التحدي الكبير في انتظار الجزائر. وما بينهما بالطبع تاريخ مختلف وتحديات مستقبلية متشابهة. الاختلاف كان في نوعية الاحتلال والفارق بين أهداف الاحتلال البريطاني للسودان والفرنسي للجزائر، كما في فصول الثورة من أجل الاستقلال. والتشابه هو في المسار الضروري للتقدم بعد تجارب الحكم القاسية منذ الاستقلال. فالسودان عرف تجارب محدودة وقصيرة زمنياً من الديمقراطية بين انقلاب عسكري وآخر، أحدثها دام 30 سنة. والجزائر ما عرفت سوى تنويعات من حكم باسم الثورة وجبهة التحرير وعملياً الجيش مباشرة أو من وراء الستار، وآخر رئاسة دامت 20 عاماً.
لكن “التاريخ ليس فقط ما حدث في الماضي، بل أيضاً ما تفكر فيه الناس في الحاضر وتراه في الماضي”، كما يقول روبرت صامويلسون. وبهذا المعنى، فإن المشكلة واحدة في السودان والجزائر: مجتمع تعددي أثنياً ولغوياً وجهوياً وعلى المستوى القبلي، وحتى طائفياً في السودان، وحكم سلطوي أحادي. والمشهد واحد في الشارع: حراك شعبي دام أشهراً وشمل الملايين، قادته نواة مدنية في المجتمع، وتجاوز أحزاب الموالاة وحتى الأحزاب المسماة معارضة.
وفي اللحظات الأخيرة من الحراك السلمي الطويل، وهو ثورة حقيقية اخترقت النسيج الاجتماعي الذي حافظت عليه “ثورات” العسكر، تدخل الجيش تحت عنوان دعم الثورة. الجيش السوداني عزل الرئيس عمر البشير الذي أسقطه الحراك الشعبي، ولم يعد ممكناً الحفاظ على رئاسته بكل أنواع القمع والعنف. والجيش الجزائري طلب من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الاستقالة، بعدما ظل داعماً له في مراحل الحراك الشعبي. وكان الدافع المباشر، كما تردد، هو أن ما سماها رئيس الأركان الجنرال أحمد قايد صالح “العصابة” الحاكمة باسم بوتفليقة المريض، بحثت فكرة إقالته من قيادة الجيش.
وهنا بدأ الانتقال من المشهد الواحد إلى سيناريوهين. السيناريو السوداني جاء على مراحل بقوة الضغط الشعبي في الداخل، والضغط الدولي وضغط الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية في الخارج: مفاوضات تتقدم وتتعثر بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير. وعود في الليل تمحى في النهار، ومواعيد تطير كأن الوقت مجاني وليس ما يعبر عنه المثل القائل “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”. فضّ الاعتصام الشعبي أمام قيادة الجيش وارتكاب مجازر يتم إنكار المسؤولية عنها. وانقلابات مضادة فاشلة، مع نزعة لدى الجنرالات للانفراد بالسلطة ثم الاصطدام بالواقع والعجز عن تجاهل الحراك. وهكذا حدث الاتفاق على تقاسم السلطة عبر مؤسسات انتقالية لمدة ثلاث سنوات على الأقل.
السيناريو الجزائري بدا ثابتاً منذ البدء. قائد الجيش الذي صار الحاكم الفعلي أصر على إبقاء الحكومة التي عينها بوتفليقة، وترك الرئيس المؤقت الذي هو من رجال بوتفليقة يتجاوز المهلة المحددة في الدستور، وفرض الانتخابات الرئاسية في ظل خبراء بفنون التزوير كخيار وحيد. كأن الثورة قامت فقط ضد بوتفليقة وليس ضد النظام من أجل نظام جديد وجمهورية جديدة. وكأن الانتخابات الرئاسية من دون إصلاحات دستورية تسبقها ليست وصفة لإنتاج ديكتاتور جديد. لا بل كأن الأزمة الاقتصادية لن تتعمق أكثر في ظل الفراغ، وكأن محاكمة عدد من المسؤولين السابقين بتهمة سرقة المال العام تكفي.
ولا حدود للتحديات في مرحلة ما بعد الاتفاق بين العسكر والمدنيين على الحكم الانتقالي. فالتجارب في العالم أكدت أن الانتقال من الديمقراطية إلى السلطوية أسهل بكثير من الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية. وتركة البشير، المطلوب التخلص منها، شاملة كل شيء تقريباً: الخراب العسكري والأمني والاقتصادي والإيديولوجي والسياسي، عدا الحروب على ثوار دارفور وكردفان وأماكن أخرى، بعد الحرب على الجنوب التي انتهت بانفصاله عن السودان. وليس في العالم العربي تجارب يمكن القياس عليها في بناء الدول. وأقل التحديات، قبل ذلك، أمام الثوار ما سموه الانتقال من “تحالف الثورة إلى تحالف الدولة”، حيث مئات التيارات والأحزاب والمنظمات والنقابات التي أسهمت في نجاح الثورة.
تقول أستاذة العلوم السياسية شيري برمان في كتاب “ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا”، الذي نشرته جامعة أوكسفورد، إن “الديمقراطية الليبرالية لا تحدث فقط بفعل رجال ونساء عظام، بل أيضاً نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة”. ولكي تنجح فإنها تحتاج إلى “وحدة وطنية ودولة قوية”.
ولا وحدة وطنية من دون ديمقراطية. ولا دولة قوية في اقتصاد ضعيف. أليست قوة السلطة في غياب الدولة هي التي بددت ثروة الجزائر، وحرمت السودان من أن يكون “سلة الغذاء” للعالم العربي، وجعلته مؤخراً في حاجة إلى أن تقدم له السعودية والإمارات 540 ألف طن من القمح؟ لعلنا في حاجة إلى الشعار الذي رفعه بيل كلينتون وأوصله إلى البيت الأبيض “إنه الاقتصاد، يا غبي”. وهذا، وأكثر منه، ما تحدث عنه رئيس الحكومة عبد الله حمدوك. فالاقتصاد أولوية ملحة، والسودان قادر، لكن النظام فشل في بناء “مشروع وطني متفق عليه”. والبرنامج الذي يجب الاتفاق عليه هو “كيف يُحكم السودان، وليس من يحكم السودان”.
اندبندت العربي