قمت مؤخرا بإعادة قراءة رواية جورج أورويل الكلاسيكية، 1984، والتي نُشرت عام 1949. وفي الرواية، ينتقد وينستون سميث، المعارض السري لحكم أوشينيا، واحدة من أقوى ثلاث قوى عظمى إمبريالية على وجه الأرض، هزيمته على يد الأخ الكبير. ربما كانت المرة الثالثة التي أقرأ فيها هذه الرواية خلال 75 عاما التي أعيشها على هذا الكوكب.
ومنذ أن كنت طفلا، لطالما كان لدي اهتمام كبير بالخيال الديستوبي. بدأ هذا الاهتمام بقراءتي لرواية “وور أوف ذا وورلدز” التي تحكي عن غزو الكائنات الفضائية من المريخ للأرض وتدمير لندن. قام مؤلفها، إتش جي ويلز، بكتابتها في نهاية القرن التاسع عشر لمنح قرائه الإنكليز إحساسا بما شعروا به في تسمانيا، الجزيرة الواقعة قبالة ساحل أستراليا، وكيف يمكن لكائنات المريخ – البريطانيين، كما حدث – أن تظهر في عالمك وتبدأ في تدميره وتدمير ثقافتك كذلك.
أستطيع أن أتذكر، ربما في سن الثالثة عشرة، وأنا أقبع تحت الغطاء ممسكا بمصباح يدوي عندما كان من المفترض أن أكون نائما. أستطيع أن أتذكر كم كان بدني يقشعر وأنا أقرأ رؤية ويلز إلى التدمير الحضاري. وفي عام 1957، كنت أعرف بالفعل أنني كنت أعيش في عالم من الدمار الحضاري المحتمل وأن كائنات المريخ كانت تعيش حولنا، وتمت تسميتها في ذلك الوقت، الروس، الراسكيز، والشيوعيين، والحمر. في وقت لاحق أدركت أيضا أننا يمكن أن نكون كائنات مريخية نعيش على هذا الكوكب.
العصر النووي
عشت في عالم ما بعد حربي هيروشيما وناغازاكي. وُلدت في 20 يوليو 1944، أي قبل عام وبضعة أيام فقط من إلقاء بلدي قنابل ذرية على هاتين المدينتين اليابانيتين، مما أدى إلى تدميرهما بطرائق من نوع لم يسبق له مثيل من قبل، وقتل أكثر من 200 ألف شخص. وبعد مضي ثلاثة عشر عاما، أصبحت بشكل ما معتادا على سيناريوهات الدمار العالمي، بعد أن قامت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ببناء ترساناتهما النووية بسرعة مذهلة.
أصبح التطهير النووي، بحلول ذلك الوقت، جزءا من أسلوب حياتنا اليومية. ما من أميركي عاش في تلك الفترة إلا ويتذكر صفارات إنذار الغارات الجوية التي تعوي خارج فصلنا الدراسي. بالطبع، لم يكن لدينا نحن الأطفال سوى فكرة غامضة عما حدث بعد انفجار القنابل النووية في هيروشيما وناغازاكي.
وبينما احتمينا بمكاتبنا ووضعنا أيدينا فوق رؤوسنا، أدركنا حينها أن تلك المكاتب والأيدي لن تنقذنا من أقوى أسلحة العالم تدميرا. هذه الصفارات لم تكن تنقل رسالة أمان، بل كانت تنذر بأننا قد نكون عرضة لهجوم نووي روسي. وبعد انتهاء هذه الاختبارات، كما أشار المؤرخ ستيفن ويرت في كتابه “نيوكليار فير”، “ذكرت الصحافة كم من ملايين الأميركيين ماتوا في كل هجوم وهمي”.
لقد نشأت مع واقع جديد. تأمل، على سبيل المثال، خطة العمليات الموحدة للجيش الأميركي لعام 1960 بشأن توجيه ضربة نووية ضخمة إلى العالم الشيوعي. لقد كان المقصود، كما نعلم الآن، إيصال أكثر من 3200 سلاح نووي إلى 1060 هدفا، بما في ذلك 130 مدينة على الأقل. حيث بلغت التقديرات الرسمية، إذ كانت سرية في ذلك الوقت، 285 مليون قتيل و40 مليون جريح، وربما لم تُذكر الآثار طويلة الأجل التي يخلفها الإشعاع.
وفي أوائل الستينات من القرن العشرين، كنت أعيش في مكان، في شوارع نيويورك، كان يرمز إلى “ملاجئ الحماية”، كما كانت تسمى آنذاك، وهي الأماكن التي تهرع إليها خلال أوقات الحروب والحرائق. ما زلت أتذكر كيف كانت رؤى التدمير النووي تملأ أحلامي وأحلام أصدقائي. وحتى يومنا هذا، أستطيع أن أتذكر شعور الحرارة المفاجئة التي كنت أشعر بها في جسدي لأن قنبلة نووية انفجرت في الأفق البعيد في أحد هذه الأحلام.
أسبوع الكراهية الترامبي
عشت حياتي، بشكل جزئي على الأقل، كما لو كنت في رواية ديستوبيا. وبالتأكيد منذ نوفمبر 2016 – منذ انتخاب دونالد ترامب – أصبح شعوري بوجود مثل هذا العالم أقوى. والأسوأ من ذلك، أن هذه المرة لا يوجد ما يمكن أن أخفيه تحت الأغطية وأنا أقرأه بواسطة مصباح يدوي عن ترامب وعن رؤيته إلى مستقبلنا الأميركي.
ومع تنامي هذا الشعور بداخلي، بعد كل هذه السنوات، أمسكت برواية أورويل مرة أخرى وتساءلت عما إذا كان دونالد ترامب يشبه شخصية الأخ الأكبر. أتذكر عندما أنهى أورويل الكتاب في عام 1948، أنه تخيل إنكلترا، التي كانت جزءا من أوشينيا، إحدى القوى العظمى الثلاث على الكوكب. وكانت الاثنتان الآخريان هما أوراسيا (الاتحاد السوفيتي القديم) وشرق آسيا (وتمثلها الصين).
وفي الكتاب، تدخل القوى الثلاث مع بعضها البعض في حالة حرب مستمرة على حدودها، وهي حرب لا يقصد منها أن تكون إما حاسمة وإما منتهية.
وفي أوشينيا، في إيرستريب 1 (إنكلترا العظمى سابقا)، حيث وينستون سميث كان يعمل موظفا في وزارة الحقيقة (وزارة الأكاذيب بالطبع)، يحكم الحزب إلى الأبد في عالم حيث “الحرب هي السلام، والحرية هي عبودية، والجهل هو القوة”. كان هذا العالم يتكون من أعضاء الحزب الداخلي، والحزب الخارجي، الذي كان سميث ينتمي إليه، والعامة.
هو عالم، يحشر فيه الحاضر دائما بين المستقبل والماضي على حد سواء، بينما تتم إعادة كتابة كل وثيقة وكل مقال وكل جزء من التاريخ باستمرار، حيث كانت مهمة سميث. وفي الوقت نفسه، يتم تغيير وثائق الماضي بما يتوافق مع سياسة الحزب، ثم يتم التخلص منها وحرقها. إنه عالم تتواجد فيه شاشات البث في كل غرفة، تذيع الأخبار بشكل مستمر، ويمكن لهذه الشاشة أيضا التجسس عليك في أي لحظة تقريبا في حياتك. وفي هذا الشأن، تحدث أورويل، الذي عاش في وقت كان التلفزيون فيه جهازا جديدا، عن عوالم المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعي المستقبلية.
عشت حياتي، بشكل جزئي على الأقل، كما لو كنت في رواية ديستوبيا. وبالتأكيد منذ نوفمبر 2016 – منذ انتخاب دونالد ترامب – أصبح شعوري بوجود مثل هذا العالم أقوى. والأسوأ من ذلك، أن هذه المرة لا يوجد ما يمكن أن أخفيه تحت الأغطية وأنا أقرأه بواسطة مصباح يدوي عن ترامب وعن رؤيته إلى مستقبلنا الأميركي
في عالمه الديستوبي، تتم إعادة صياغة اللغة الإنكليزية نفسها إلى لغة خيالية تسمى “نيوسبيك”، بحيث في المستقبل البعيد، سيكون من المستحيل على أي شخص التعبير عن أفكار غير معتمدة من قبل الحزب. وفي الوقت نفسه، فإن أيا من القوتين العظميين المنافستين لأوشينيا، وكذلك أي معارضة محلية محتملة للحزب، تخضع بانتظام لجلسة من الكراهية. وفي عالم الشاشات والملصقات واللافتات، يظهر وجه الأخ الأكبر ذو الشارب الكثيف والزعيم الرسمي للحزب، والذي يتلقى الدعم المباشر من وزارة الحب (المعنية بالسجن، وإعادة التعليم، والتعذيب، والألم، والموت).
كانت تلك هي صورة أورويل عن الاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين الذي كان مثاليا وقتها للتعبير عن مستقبل من الرعب الأبدي. واليوم، يمكن القول إن الأميركيين يدخلون إلى العالم الغريب لهذه الرواية. حيث في عالمنا، يبدو دونالد ترامب وإدارته بالفعل وكأنهما مزيج من وزارة الحقيقة، وبئر الذكريات، وجلسات الكراهية التي تعتبر جوهرا أساسيا في مسيراته، ومؤخرا جريمة “الكراهية” التي وقعت في إل باسو، تكساس، من قبل رجل مسلح يتبع مبادئ ترامب بشأن الغزو، معتقدا بذلك أنه قد يطهر تكساس من الغزو اللاتيني.
وبمعنى ما، يمكن تشبيه الرئيس ترامب بالأخ الأكبر ولكن بصورة عكسية. فترامب لا يشاهدنا في كل لحظة من النهار والليل، نحن الذين نراقبه بطريقة غير مسبوقة من خلال تسليط وسائل الإعلام الضوء عليه. لم تتم مراقبة شخص ما بمثل هذه الطريقة من قبل، كل إيماءة، تغريدة، تعليق، فكرة، شعار، تصريح إلخ. في الماضي، كان حجم هذه التغطيات يحدث فقط في حوادث اغتيالات الرؤساء على سبيل المثال، وليس لأحداث الحياة اليومية كما يحدث في البيت الأبيض.
الغرفة 101 (عام 2019)
فكر في أميركا في عهد ترامب على أنها نسخة ساخرة من رواية 1984. ومع ذلك، ليس من المستغرب، أن تكون نظرة أورويل إلى المستقبل قصيرة المدى. إن ما لم يره أثناء اندفاعه لإنهاء تلك الرواية قبل انتهاء حياته، يجعل حاضر ترامب ديستوبيا بشكل أكبر مما كان متخيلا. وفي روايته، ابتكر أورويل رؤية لشيء مثل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين الذي كان يحاول أن يخلد نفسه إلى الأبد من خلال تجديد قوته المطلقة وتعزيزها باستمرار.
وفي روايته 1948، عرف أورويل بشأن هيروشيما وناغازاكي والأسلحة التي تم استخدامها في ذلك الوقت. ولكن ما لم يكن يتخيله في كتابه كان عالما ديستوبيا لم يعكس الاستمرارية بل النهايات والتدمير. لم يستحضر نهاية العالم النووية التي تطلقها إحدى القوى العظمى الثلاث، وبالطبع لم تكن لديه أي وسيلة لتخيل نوع آخر من نهاية العالم المحتملة التي أصبحت مألوفة بالنسبة لنا، وهي تغير المناخ.
ولسوء الحظ، في كلتا الحالتين يثبت دونالد ترامب أنه ديستوبي بحق. فهو الرئيس الذي هدد بصب غضبه على كوريا الشمالية بشكل غير مسبوق للعالم، قبل أن يقع في حب نظيره الكوري. بل وادعى مؤخرا أنه قادر على تحقيق النصر في الحرب الأفغانية التي دامت 18 عاما تقريبا “خلال أسبوع” عن طريق تدمير ذلك البلد وإزالته “من على وجه الأرض” وقتل “10 ملايين شخص”.
لأول مرة، استخدم جنرالاته من العسكريين “أم القنابل”، وهو أقوى سلاح في ترسانة الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تُحدث سحابة يمكن رؤيتها على بعد 20 ميلا، في نفس البلد، لإبهاره والتأثير عليه.
وفي الآونة الأخيرة، بدءا من انسحابها من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى لعام 1987، بدأت إدارته في تحطيم الهندسة النووية في حقبة الحرب الباردة التي كانت تحافظ على ترسانات القوى العظمى تحت سيطرة معينة. وبذلك تساعد الإدارة الأميركية في إطلاق سباق تسلح نووي جديد على كوكب الأرض. وهذا يحدث في وقت نعلم فيه أن حربا نووية محلية نسبيا بين القوى الإقليمية مثل الهند وباكستان (المتصارعتين على إقليم كشمير) يمكن أن تخلق شتاءا نوويا عالميا وأن تتسبب في تجويع ما يصل إلى مليار شخص.
ضع في اعتبارك أيضا أن كل ذلك يمكن أن يكون أقل تصرفات دونالد ترامب الحثيثة عندما يتعلق الأمر بالمستقبل النهائي للبشرية. حيث هو وإدارته يبذلان قصارى جهدهما للمساعدة في إحداث تغير المناخ والتحريض عليه من خلال ضمان إطلاق المزيد من الكربون في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب، وهو الكوكب ذاته الذي أحرقت عليه البشرية، منذ عام 1990، نصف جميع أنواع الوقود الأحفوري التي تم استخدامها على الإطلاق. وعلى الرغم من اتفاق المناخ في باريس والكثير من الحديث عن ضرورة السيطرة على تغير المناخ، لا يزال متواصلا إطلاق الكربون في الغلاف الجوي بمستويات قياسية. وليس من المستغرب أن الانبعاثات الأميركية بدأت في الارتفاع مرة أخرى في عام 2018.
نعيش الآن بالفعل على كوكب ديستوبي. ففي التهديدات التي تواجهها إمدادات الغذاء في العالم وغمر المدن الساحلية، وهجرة السكان، مع ارتفاع الحرارة إلى مستويات قد تصبح في بعض الأماكن غير محتملة، مما يترك أجزاء من الكوكب غير صالحة للسكن، من الممكن الآن على الأقل تخيل الانهيار المستقبلي للحضارة نفسها
وخلال هذا الصيف، ووسط موجات الحرارة العنيفة في الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى، ومع احتراق أجزاء من المنطقة القطبية الشمالية بسبب تسخينها بمقدار ضعف المعدل العالمي، مع ذوبان جرينلاند، والجليد البحري في القارة القطبية الجنوبية بكميات قياسية، يبدو أن بعض توقعات الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ التابع للأمم المتحدة بشأن المستقبل البعيد تلوح الآن في الأفق. وكما قال عالم المناخ ماركو تيديسكو مؤخرا، متحدثا عن القطب الشمالي، “إننا نشهد ذوبان الجليد الآن بعد أن توقعنا حدوث ذلك بعد 30 إلى 40 عاما من الآن”.
وبعبارة أخرى، نعيش الآن بالفعل على كوكب ديستوبي. ففي التهديدات التي تواجهها إمدادات الغذاء في العالم وغمر المدن الساحلية، وهجرة السكان، مع ارتفاع الحرارة إلى مستويات قد تصبح في بعض الأماكن غير محتملة، مما يترك أجزاء من الكوكب غير صالحة للسكن، من الممكن الآن على الأقل تخيل الانهيار المستقبلي للحضارة نفسها.
ويجب أن نتذكر أيضا أن النسخة المشابهة للأخ الأكبر، ولكن ذو الشعر البرتقالي، يمكن أن تكون موجودة لفترة أطول بكثير، إذا فاز في انتخابات عام 2020.
وبعبارة أخرى، وإذا عدنا إلى رواية 1984، نجد وينستون سميث، الذي كان معارضا للحزب، تم القبض عليه وجلبه إلى وزارة الحب من قبل شرطة الفكر ليكمل عمله في ما يتوافق مع سياسة الحزب. في هذه الأثناء، تعرض سميث للتعذيب الوحشي حتى يتمكن من الموافقة حقا على أن 2 + 2 = 5. وعندما يظن أنه عدل رأيه ليتناسب مع الحزب، يكتشف أن مصاعبه لم تنته بعد.
إذ لا يزال يتعين عليه زيارة القاعة 101. كما أخبره المحقق، “لقد سألتني ذات مرة عما كان في القاعة 101. أخبرتك أنك تعرف الإجابة بالفعل. الجميع يعرف ذلك. إن الشيء الموجود في الغرفة 101 هو أسوأ شيء في العالم، وتحتوي على أسوأ مخاوف السجين”.
لذلك، هناك طريقة واحدة للتفكير في ما نحن فيه الآن على كوكب الأرض: الأميركيون، بل وكل البشر، ربما يكونون بالفعل في الغرفة 101، سواء كنا نعرف ذلك أم لا، والحقيقة أن معظمنا يجب أن يعرف ذلك. ومن الواضح أن الوقت قد حان للعمل على نطاق عالمي، وأنه يجب أن نقول ذلك أيضا للأخ الأكبر.
العرب