سلسلة الأحداث التي جرت في منطقة الشرق الأوسط في الـ 24 ساعة الأخيرة تعكس تصعيداً كبيراً في الصراع الإسرائيلي ضد إيران. المواجهة بين الدولتين التي يجري معظمها بصورة سرية، تمتد الآن حسب التقارير على مساحة ثلاث دول أخرى: سوريا ولبنان والعراق.
خلال يوم واحد، نسبت إلى إسرائيل 3 هجمات في هذه الدول الثلاث، ضد أهداف متماهية مع إيران، وتم الإبلاغ عن قتلى في سوريا والعراق. ولأن السكرتير العام لحزب الله، حسن نصر الله، يهدد بشكل صريح بالانتقام لقتل مقاتلين من حزبه في الهجوم على سوريا، فإن الاستعداد العالي والاستثنائي في الجانب الإسرائيلي يتوقع أن يستمر فترة ما.
قال الجيش الإسرائيلي، منتصف ليل السبت، إنه نجح في إحباط خطة لإيران كان يمكن أن تشمل إطلاق طائرات مسيرة هجومية على أهداف عسكرية ومواقع للبنى التحتية في شمال البلاد. المحاولة الأولى لقوة “القدس” في حرس الثورة الإيراني جرى إحباطها، الخميس، عندما اقترب الإيرانيون ومقاتلون من مليشيات شيعية إلى حدود إسرائيل في هضبة الجولان. الجيش لا يعطي تفاصيل حول كيفية إحباط العملية، رغم أنه نشر صوراً ظهر فيها النشطاء قرب الحدود.
ولكن الإيرانيين واصلوا التخطيط للعمل، فقد هاجم سلاح الجو مبنى في قرية عقربة في جنوب شرق دمشق، التي كانت ستنطلق منها هجمات الطائرات المسيرة، بعد بضع ساعات على ذلك.
وقال الجيش الإسرائيلي إنه تم قصف مبنى استخدمه رجال “قوة القدس” ومقاتلون من المليشيات تخزن فيه الطائرات والعبوات الناسفة، التي نقلت مسبقاً من إيران إلى مطار دمشق. رئيس الأركان، افيف كوخافي، اتهم قائد قوة القدس، الجنرال قاسم سليماني، بأنه وقف من وراء تمويل العملية وتخطيطها.
أعطت إسرائيل وبصورة استثنائية تفاصيل كثيرة نسبياً عن الهجوم، وقد أصدر المتحدث بلسان الجيش ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بيانات حول ذلك، وقالوا إن نتنياهو مكث في مكتبه ليلاً في “بئر” سلاح الجو مع رئيس الأركان كوخافي. انحرفت إسرائيل في بياناتها عن سياسة الغموض التي اتبعتها بخصوص معظم الأحداث في سوريا في السنوات الأخيرة، وتبرير ذلك قد يكون أن الحديث يدور عن عملية إحباط استباقية قبل لحظة من الهجوم الإيراني. وقد تكون هنا اعتبارات انتخابية.
بعد أقل من ثلاث ساعات، ثمة أمر مهم حدث في بيروت. وقال نصر الله في خطاب له إن سكان الضاحية، الحي الشيعي في جنوب بيروت، شاهدوا طائرات إسرائيلية مسيرة تحلق على ارتفاع منخفض فوق شوارع الضاحية. إحدى هذه الطائرات أسقطها شباب بعد رميها بالحجارة. وثمة طائرة مسيرة أخرى، كانت تحمل عبوة ناسفة، أصابت مكتباً كان يستخدمه حزب الله في مبنى آخر من الحي، أوقعت أضراراً بسيطة. إذا كانت إسرائيل تقف حقاً من وراء الهجوم فليس من الواضح تماماً ما الذي أرادت أن تحققه، عدا عن إرسال رسالة تحذير لحزب الله. الضرر الذي وثق في الصور من الضاحية لا يبرر هذا الهجوم الاستثنائي. قد تكون هناك اعتبارات أخرى غير ظاهرة لنا في هذه المرحلة.
الحادثة الثالثة حدثت أمس بعد الظهر، قرب معبر الحدود في منطقة أبو كمال بين العراق وسوريا. حسب التقارير، طائرة مسيرة هاجمت قافلة كان فيها قادة مليشيا شيعية على الجانب العراقي من الحدود، وفي العراق جرى الإبلاغ عن تسعة قتلى من بينهم قائد محلي رفيع المستوى نسبياً.
رد شديد وفوري
قبل هذا التقرير، أمس في الظهيرة، تجول رئيس الحكومة ورئيس الأركان في هضبة الجولان وأجريا تقديراً للوضع مع كبار ضباط الجيش في قيادة الفرقة القطرية، وقال نتنياهو أثناء الزيارة إن الهجوم الذي أحبط من سوريا كان “مبادرة إيرانية بقيادة إيران، وبإرسالية من إيران”. وأضاف بأن إسرائيل لن تتحمل الهجمات عليها وأن كل دولة تسمح باستخدام أراضيها للهجمات ضد إسرائيل ستتحمل النتائج، “من جاء لقتلك فبكر في قتله”.
أما نصر الله فرد على هذه الأقوال بخطاب مطول وهجومي ألقاه في بيروت. نفى ادعاء إسرائيل بأن هجوم سلاح الجو في سوريا كان موجهاً ضد رجال حرس الثورة الإيراني، وقال إن المبنى الذي جرى قصفه استخدمه مقاتلو حزب الله. واتهم حسن نصر الله إسرائيل بخرق “قواعد اللعب” بين الطرفين، وهدد برد شديد وفوري من الأراضي اللبنانية، كما يبدو. “أقول للجنود الإسرائيليين الموجودين على الحدود.. عليكم الخوف من ردنا، بدءاً من الليل”.
جهاز الأمن ينظر بجدية لتهديد حزب الله، وازدادت استعدادات بطاريات القبة الحديدية ورفع مستوى التأهب بدرجة كبيرة في المواقع الشمالية، تحديداً المواقع المتقدمة على الحدود مع لبنان وسوريا.
في السابق، بعد تهديدات مشابهة، رد حزب الله بعمليات موضعية ضد الجيش الإسرائيلي.. فقد تم وضع كمين للصواريخ المضادة للطائرات التي قتل فيها ضابط وجندي على سفوح جبل دوف، رداً على الهجوم الذي نسب إلى إسرائيل في هضبة الجولان في 2015 الذي قتلت فيه شخصية كبيرة من حزب الله، جهاد مغنية، وجنرال إيراني. حاولت إيران من ناحيتها عدة مرات، في نيسان وأيار 2018 وكانون الثاني 2019، الرد بقصف صواريخ من الأراضي السورية على هجمات إسرائيلية ضد قواعدها في سوريا. عمليات القصف تم إحباطها من خلال هجمات وقائية لسلاح الجو.
سابقاً، اعتبر حزب الله هجمات إسرائيل الجوية على الأراضي اللبنانية خطاً أحمر، في الوقت الذي ضبط نفسه بشأن عشرات الهجمات التي نسبت إلى إسرائيل ضد قوافل السلاح التي تم تهريبها والتي كانت ستنقل إلى حزب الله عبر الأراضي السورية. وعندما كشفت إسرائيل قبل سنة مصانع لتحسين دقة السلاح التي أقامها حزب الله في بيروت، فضلت إسرائيل القيام بذلك من خلال خطاب علني لنتنياهو في الأمم المتحدة وليس من خلال القصف.
تحليل دقيق
عملية إيران التي جرى إحباطها خطط لها كما يبدو كانتقام على الهجوم الذي نسب إلى إسرائيل في العراق في 19 تموز ضد مخازن سلاح لمليشيات شيعية مدعومة من إيران. اعتبرت طهران ذلك محاولة لإسرائيل من أجل توسيع ساحة الصراع. وتحفظت الولايات المتحدة أيضاً من الهجوم بسبب الخوف من التشويش على علاقتها مع الحكومة العراقية. واهتمت بتسريب معلومات في نهاية الأسبوع الماضي وتوجيه انتقاد لإسرائيل في صحيفة “نيويورك تايمز”.
الخميس الماضي، وبصورة شاذة جداً عن سياسة أمن المعلومات، رمزت طهران بشأن الرد المتوقع. محلل مقرب من حرس الثورة الإيراني كتب في الصحيفة الإيرانية “كيهان” بأن عمليات إسرائيل في العراق وسوريا سيأتي الرد عليها بشكل مفاجئ مثل إطلاق طائرات مسيرة نحو أهداف أمنية حساسة وموانئ ومنشآت نووية في إسرائيل. الخطة التي تم إحباطها -حسب الجيش الإسرائيلي- كانت تشبه العملية التي هدد بها المحلل قبل حدوثها.
القصف المتكرر لأهداف إيرانية في سوريا يبرهن على الأفضلية التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي عندما تجري المواجهة مع حرس الثورة قرب الحدود مع إسرائيل. أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تغطي ما يحدث في سوريا، وسلاح الجو ينجح في ضرب الإيرانيين وإحباط خططهم، وبدون صعوبات خاصة حتى الآن.
ولكن هذا لا يعني أن إيران تنازلت عن طموحاتها في سوريا. فبعد الهجمات المتكررة، السنة الماضية، أجرى الإيرانيون تغييرات في انتشارهم واستعدادهم (مثل نقل بؤرة النشاط من مطار دمشق إلى قاعدة “تي 4” قرب حمص الأكثر بعداً عن إسرائيل)، ولم يتنازلوا عن عمليات التمركز العسكري في سوريا ولم يوقفوا تهريب السلاح لحزب الله.
كل ذلك يحدث في الوقت الذي يسود فيه التوتر ساحة الولايات المتحدة وإيران في الخليج الفارسي، والأزمة حول الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. إدارة ترامب أوضحت في السابق بأنها غير معنية بالحرب مع إيران. ولكن الاحتكاك بين الطرفين مستمر، ويمكنهم للإيرانيين الاستمرار في مهاجمة أهداف مرتبطة بصناعة النفط في السعودية والإمارات، كما يفعلون ضد إسرائيل من سوريا.
أمس، هبط فجأة وزير الخارجية الإيراني ظريف في باريس، التي يعقد فيها زعماء الدول السبع العظمى “جي 7”. هذه الخطوة يمكن أن تكون محاولة للدفع قدماً باستئناف المحادثات مع الأمريكيين بوساطة أوروبية. الرئيس الأمريكي وبصورة، غير معهودة بالنسبة له، أجاب “لا يوجد رد”، عندما سئل عن ذلك.
ثقوب أخرى في البطاقات.
الهجوم الذي حدث ضد أهداف في سوريا، وما حدث في لبنان، يظهر الانتقاد الذي وجه للحكومة بذريعة انعدام الروح الهجومية ضد حماس في القطاع. ومثلما في قضية كشف وتدمير الأنفاق التي حفرها حزب الله في لبنان في كانون الأول الماضي، يتبين أن هناك اعتبارات أخرى تقف خلف سياسة ضبط النفس في القطاع لا يتم كشفها للجمهور في الوقت الحقيقي لحدوثها.
التوتر في منطقة الشمال يزداد كلما اقترب موعد إجراء الانتخابات، قبل يوم الانتخابات نفسه في 17 أيلول. رئيس الحكومة يستعد للانتخابات، وثمة تزايد في العمليات القاتلة في الضفة الغربية واحتكاك متزايد مع حماس في القطاع قد يؤدي إلى مواجهة قتالية أخرى هناك. ولكن في الشمال، خلافاً للقطاع، يشعر نتنياهو في هذه الأثناء بارتياح من الناحية السياسية: يظهر كمن يسيطر على الوضع ويدير استخدام القوة بحذر نسبي. وهناك مواطنون إسرائيليون غير مهددين بشكل مباشر ولم يصابوا. لذلك، سيحاول نتنياهو استثمار النشاط العسكري في سوريا انتخابياً، في الوقت الذي يحاول فيه أن يقلص بقدر الإمكان الحديث عن وضع سكان غلاف غزة.
بخصوص الشمال، لا يوجد لدى خصوم نتنياهو كثير مما يمكن قوله باستثناء إظهار الدعم القسري بقدر ما لسياسة الحكومة وخطوات الجيش الإسرائيلي. مع ذلك يطرح سؤال: ألم يكن القرار (كما أبلغ عنه)، بتوسيع الهجمات الإسرائيلية على العراق، يكتنفه مخاطرة مبالغ فيها، وإن لم يكن هذا هو القشة التي قصمت ظهر البعير الإيراني، وجر محاولة الرد في منتهى يوم السبت؟
عندما بدأت إسرائيل هجماتها الجوية على سوريا أثناء الحرب الأهلية قبل بضع سنوات، ناقشت القيادة العليا في جهاز الأمن مسألة متى سينفد صبر الرئيس السوري بشار الأسد ويقرر الرد على الهجمات. الأسد ضبط نفسه فترة طويلة، لكن في 2017 بدأت القوات السورية بالرد بنيران المضادات للطائرات ضد الطائرات الإسرائيلية. جرى هذا عندما استجمع النظام ثقة متجددة بالنفس بعد أن أعاد إلى سيطرته تدريجياً (بمساعدة روسيا وإيران) معظم أراضي الدولة.
التشبيه الذي استخدمته إسرائيل في حينه كان يتعلق بعدد ثقوب البطاقة: متى سيجري ثقبها بما يكفي من الثقوب، أي الهجمات، من أجل نفاد صبر الأسد. حسب ما نشر في الأسابيع الأخيرة، انتقلت إسرائيل إلى طريقة التثقيب الحر الشهري، وربما لن يكون هذا مقبولاً إيرانياً. لذلك، سيكون لهذا الأمر ثمن معين، حتى لو لم يصل بالضرورة إلى حرب شاملة بين الطرفين.
القدس العربي