هذا صراع بين تصميمين: من جهة الجنرال قاسم سليماني وتصميمه على تحويل سوريا إلى لبنان، وهضبة الجولان إلى حزب الله ستان. وبالمقابل تقف دولة إسرائيل التي أقسمت ألا تكرر الخطأ اللبناني فتضرب بمطرقة من خمسة كيلوغرامات على كل قمقم يلوح في الأفق قبل أن يصبح قاطرة مهددة. وليس صدفة أن ذكر رئيس الأركان الفريق افيف كوخافي سليماني باسمه الصريح على الملأ أمام الكاميرات. افترض أنه لو كان هناك “خط ساخن” بين هذين السيدين، لسمع سليماني أمس رسالة إسرائيلية بسيطة: سنطارد قوة القدس وسنطاردك في كل مكان، في كل زمان، في البر، في البحر وفي الجو.
حتى الآن، لم يجد أي شيء آخر مع سليماني، فقد تلقى ضربات غير بسيطة منذ أكثر من سنتين، ولكنه لا يفهم التلميح. وإن دوافعه، حسب التقديرات الاستخبارية، ليست عقلانية. يرى سليماني في مهمته رسالة دينية، فريضة إلهية لجعل حياة إسرائيل جحيماً. له معارضة غير بسيطة في طهران، ولكنه يتصدى في هذه المرحلة بل وينتصر: فالزعيم الأعلى آية الله خامينئي معه، حتى الآن. والنجاح الدراماتيكي في الحرب الأهلية في سوريا، والنجاح المفاجئ في اليمن، والضعف السني البارز، كلها تبث ريحاً في أشرعتهم. والجهة الوحيدة التي تنفخ في الاتجاه المعاكس هي إسرائيل. وهذه النفخة تضرب بهم المرة تلو الأخرى. ثمة انطباع بأن ليس لهم نية في التراجع، بل العكس.
العقوبات المتصاعدة من الولايات المتحدة لا تنجح، بعد، في الاتجاه المتوقع. الإيرانيون يرفعون مستوى الفعل، ويحاولون خلق احتكاك متزايد مع إسرائيل لممارسة الضغط على واشنطن وأوروبا وروسيا. أما إسرائيل فلا تتراجع. يواصل رئيس الأركان كوخافي من النقطة التي توقف عندها سلفه آيزنكوت، فلا يقدم تخفيضات، ومركز، وحاد وواضح. الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات تتجاهل ضجيج الخلفية، أي الاعتبارات الجانبية والإزعاجات الأخرى. وحتى الانتخابات المقتربة لا تشوش، حالياً، على الأعمال.
لقد أخذت إسرائيل أمس المسؤولية عن إحباط عملية الحوامات لسليماني في نطاق سوريا، ولكنها لم تتطرق لما حصل في سماء بيروت. تعتبر ضاحية نصر الله، حتى وقت قصير مضى، منطقة نقية. والقواعد غير المكتوبة بين إسرائيل ولبنان منعت الجيش الإسرائيلي من الهجوم في مجالات لبنان وسمحت لنصر الله بوقف النار. في هذه اللحظة ليس واضحاً من هاجم الضاحية، ولماذا. نظريات المؤامرة المتطورة على نحو خاص تتحدث عن صرف وجهة الطائرات المسيرة الإيرانية، وليس لهذا تأكيد من أي مصدر. مهما يكن من أمر، فمن ناحية نصر الله تحطمت قواعد اللعب ووعد بأن يرد. وقد درج على الإيفاء بوعوده، وصرح بأنه من الآن فصاعداً سيقيد حرية عمل سلاح الجو من فوق سماء لبنان. هذا وعد سيكون صعباً جداً الإيفاء به.
يدير رئيس الوزراء نتنياهو هذه المعركة، حالياً على الأقل، برباطة جأش وبحكمة. في المستوى العسكري، يسمح للجيش الإسرائيلي بالاندفاع، ويأخذ بتوصيات رئيس الأركان وهيئة الأركان، ويقر العمليات والحملات. أما نقاط خلل نتنياهو فهي على المستوى السياسي. فهو لا يشرك الكابنت، ولن يشركه إلا إذا تشوشت الأمور، ويثرثر، ويتبجح.. وهذه لا تتقدم أي نتائج، بل تثير الهواجس وتكثر الحسابات. أحزاب المعارضة مقتنعة بأن نتنياهو يقف وراء رد الفعل المتسلسل الذي نشأ في واشنطن ودفع الأمريكيين إلى إدانتنا بالهجمات الخفية التي وقعت في العراق الشهر الماضي. هذا يعقد الوضع ويرفع فرص الاشتعال. الردع الوحيد الذي يتحطم من هذه الثرثرة هو ردع بيبي لجنرالات “أزرق أبيض”. وهذا الاعتبار يحظر عليه أن يتسلل إلى هنا.
إن نتائج المعركة الإسرائيلية ضد قاسم سليماني مختلطة. وتكتيكياً، تنجح إسرائيل في التخريب على المساعي الإيرانية لتحقيق إنجازات محلية ذات مغزى. واستراتيجياً، تثبت إيران محوراً يبدأ في طهران وينتهي في بيروت، مع تفرعات في هضبة الجولان. وتبينت وعود الروس والأمريكيين كوعود عابثة. فلا توجد مسافة 80 كيلومتراً بين الإيرانيين والحدود. لقد انتصر المحور الشيعي، الذي هو آخذ في الإغلاق على حدودنا. هذا واقع مقلق، غير بسيط، ومهدد.
تحاول إسرائيل دق إسفين بين سليماني ونصر الله، والجيش الإسرائيلي غير مقتنع بأن نصر الله قد عرف بعمل نشطائه في كفر عقربة، في ليلة السبت الأحد، وغير مقتنع أيضاً إلى أيها ينتمي نصر الله أكثر: أهو حامي لبنان أم رسول إيران؟ ينتمي إلى الشيعة الذين يسكنون في جنوب لبنان أم إلى قاسم سليماني؟ في إسرائيل يحاولون الرقص على هذه البلاطة، ويحاولون أيضاً الإيضاح لنصر الله بأنه لن يصل بعيداً بمعونة سليماني، وكذا الإيضاح للأسد بأنه سيدفع الثمن إذا واصل تجاهل ما يجري في ساحته الخلفية. التتمة ستأتي.
القدس العربي