تجلس إيران التي لا تمتلك أية قنبلة أو رأس نووي، في مواجهة ست دول تملك معاً على الأقل خمسة عشر ألف رأساً نووياً. تجلس محصنة بموقف رسمي وفتاوى شرعية في مقابل دول تسعى للحصول على نوع من الطمئنة الإيرانية، رغم أن المنطق يقول إن طهران هي من يحتاج للإطمئنان.
في الحي الخامس في العاصمة النمساوية فيينا، مقهى صغير يسمى بـــ “مقهى المشربية”، يتفق على تسميته بـــ “قهوة المصريين”. في المقهى الذي يملكه شاب مصري يدعى ماجد، إجتمع عرب من جنسيات مختلفة. كلهم إتخذوا قرار الرحيل عن أوطانهم خلال السنوات العشرين الماضية. على صوت أم كلثوم وقرقعة النراجيل وأصوات النقاشات الحادة، يبدو الواقع مشابهاً تماماً للواقع العربي. إتفاق على لا إتفاق، وإجماع على الإختلاف، بل وشعور بالخوف من مستقبل قاتم.
لكنه خوف بعيد، كون من يجلسون في “المشربية” يعيشون على بعد آلاف الأميال من أوطانهم. بين من يحبّ جمال عبد الناصر، وبين من يرى أن أنور السادات صاحب رؤية، إختلف الجمع على التاريخ ونسوا أنهم يعيشون في واقع أسوأ بكثير من أي واقع عاشوه من قبل. قطع العم علي الحديث بالقول إن مشكلة العرب أنهم يخافون من بعضهم البعض، وكلما إزدادوا خشية يوغلون بظلم بعضهم بعضاً.
صدق العم علي في تشخيصه للحالة العربية، لكن الحقيقة أن هذه الحال لا تقتصر فقط علينا نحن العرب فيما بيننا، فالعالم الكبير من حولنا يؤصلها في مجتمعات كبيرة، ويحولها إلى هاجس وجودي يكاد يصل إلى نوع من الخوف المرضي الجماعي. النظرة إلى إيران مثال جيد لذلك، وتعاطي الغرب مع برنامجها النووي السلمي نموذج يمكن البناء عليه في مثل هذه الحال، ولهذا نحن الآن في فيينا نشهد الحلقة الأخيرة من المسلسل الطويل لمفاوضات إيران مع السداسية الدولية، والتي إستمرت لثلاثة عشر عاماً متوالية، في عهد ثلاثة رؤساء إيرانيين ومثلهم من الولايات المتحدة، وخمسة وزراء خارجية أميركيين وأربعة من إيران، وعشرات المفاوضين على الجانبين، ومليارات الدولارات من الخسائر السنوية لإيران بسبب العقوبات، وجلسات مفاوضات متنقلة بين ثماني مدن على الأقل.
كل ما سلف كان الهدف منه بحسب ما تقول الولايات المتحدة والدول الخمس الأخرى والإتحاد الأوروبي، هو الحصول من إيران على ضمانات بأن برنامجها لن يشكل خطراً على السلام الدولي.
ربما هو جفاء الإيرانيين مع الإعلام من جهة، ومن جهة ثانية شخصية الدولة في إيران، إذا جاز التعبير، والتي لا ترى أنها بحاجة لبذل جهد حقيقي في مجال شرح ما تقوم به للعالم، المهم بالنسبة لهم أن من في إيران يعرف أنه يقوم بعمله كما يجب أن يكون. ولهذا هناك دوماً فجوة بين نظرة الآخر إلى إيران ونظرة الإيراني إلى نفسه، هي مسألة لها علاقة بالتركبية الإجتماعية الثقافية لهذا البلد الموغل في التاريخ. هذا يشرح لماذا لم تخرج إلى العالم فتوى تحريم السلاح النووي والكيميائي لآية الله علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وهي التي فعّل الإيرانيون إستخدامها الإعلامي الفعلي قبل بضعة سنوات فقط. بل أن غارث بورتر، المؤرخ الأميركي والصحافي الإستقصائي، إكتشف خلال عمله على كتاب حول البرنامج النووي الإيراني، أن الإمام روح الله الخميني كانت لديه فتوى أيضاً بتحريم الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية، وينقل عن محسن رفيق دوست، الوزير الأسبق للحرس الثوري في الحكومة الإيرانية، أنه في خضمّ الحرب الإيرانية -العراقية قدم دراسة للإمام عن إمكانية تطوير أسلحة غير تقليدية، بيولوجية وكيميائية، فكان أن سمع من الإمام كلاماً حاسماً في هذا الإطار. قال الإمام الخميني “بدل أن تفكروا في صناعة أسلحة كيميائية وبيولوجية، علينا صناعة أدوات حماية لجنودنا من هكذا أسلحة كأقنعة مضادة للغازات وما إليه”. يضيف رفيق دوست “أخبرت الإمام عن وجود فكرة بعيدة الأمد للبدء في مشروع لإنتاج أسلحة نووية، فأجاب الإمام بشكل قاطع لا نريد هكذا أسلحة، إذا كان لديك علماء أرسلهم إلى الوكالة الإيرانية للطاقة للذرية، هكذا أقفل الإمام الباب أمام حتى التفكير في هذا الأمر”.
تجلس إيران اليوم، التي لا تمتلك أية قنبلة أو رأس نووي، في مواجهة ست دول تملك معاً على الأقل خمسة عشر ألف رأساً نووياً. تجلس محصنة بموقف رسمي وفتاوى شرعية في مقابل هذه الدول التي تسعى للحصول على نوع من الطمئنة من إيران، رغم أن المنطق يقول إن طهران هي من يحتاج للإطمئنان.
علي هاشم
موقع الميادين