لا تتوافر أرقام دقيقة حول أعداد اللاجئين السوريين في مصر، التي تتباين كثيرا من مصدر لآخر. وحين ذكر الرئيس عبد الفتاح السيسي، في رد على سؤال حول اللاجئين السوريين، أن مصر تستضيف أكثر من 5 ملايين لاجئ من جنسيات كثيرة، لم يحدد نسبة اللاجئين السوريين بين هؤلاء.
غير أن بعض التقارير الصحافية التي تناولت هذا اللقاء تطوعت من نفسها بالإشارة إلى أنها تبلغ 10% على الأقل، ما يعني أن عدد اللاجئين السوريين المقيمين في مصر الآن وصل إلى أكثر من نصف مليون لاجئ، وهو رقم يبدو مبالغا فيه إلى حد كبير، خاصة إذا ما قورن بعدد المسجلين رسميا لدى مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين فى مصر، والذي لا يتجاوز 131000 لاجئ.
أما إذا احتكمنا إلى التقارير الرسمية المصرية التي تتضمن إشارة هنا أو هناك إلى عدد اللاجئين السوريين في مصر، فسوف نجد أن العدد يتباين أيضا من تقرير لآخر، ويتراوح بين 250 و300 ألف، وهي أرقام مبالغ فيها أيضا بالنسبة للعديد من المراقبين. لذا يعتقد على نطاق واسع أن الرقم الأقرب للصحة يدور حول 200 ألف لاجئ، كحد أقصى، وهو رقم يفترض ألا يشكل اي مصدر للقلق أو للإزعاج، في بلد يزيد تعداده عن 100 مليون نسمة، خاصة إذا كان البلد المضيف يتمتع بدرجة عالية من التجانس الاجتماعي، كما هو الحال في مصر، وبالتالي يفترض ألا يثير أي نوع من الحساسيات المتعلقة بالتوازنات الطائفية أو المذهبية، كما هو الحال في بلدان عربية أخرى كلبنان على سبيل المثال.
في سياق كهذا يمكن القول إن نسبة اللاجئيين السورين إلى إجمالي عدد السكان في مصر هي في الواقع أقل من 0.002%، ما يعني أن بين كل ألف مواطن مصري يعيش اثنان فقط من السوريين، وهو رقم ضئيل جدا إذا ما قورن بنسبة اللاجئين السوريين إلى إجمالي عدد السكان في بلد كالأردن، الذي وصلت فيه إلى أقل قليلا من 17%، أو في بلد كلبنان، الذي وصلت فيه إلى أكثر من 7%. رغم ذلك، تحاول أوساط سياسية وفكرية بعينها إثارة هذه المشكلة في مصر من وقت لآخر، ولا تتردد في العمل على بث الفتنة وتأليب المواطنين المصريين ضد إخوانهم السوريين، تارة بدعوى أن أعدادهم الكبيرة باتت تشكل عبئا اقتصاديا على بلد فقير مكتظ بالسكان، لا يجد أماكن كافية لأولاده في المدارس أو أسرة كافية لمواطنيه في المستشفيات، وتارة أخرى بدعوى أنهم باتوا يشكلون مصدر تهديد لأمن مصر واستقرارها، خاصة أن بعضهم لا يخفي تعاطفه أو حتى انتماءه إلى جماعات الإسلام السياسي، وبالتالي لا يستبعد أن تكون من بينهم خلايا تعمل لحساب الجماعات الإرهابية، التي ما يزال بعضها يقاتل في سوريا، ويسعى لنقل ميدان المعركة إلى مصر. لإلقاء الضوء على هذه المحاولات، سأكتفي هنا بالإشارة إلى واقعتين فقط، ضمن وقائع أخرى كثيرة، تعكس وجود محاولات مستمرة ومستميتة لتعكير صفو العلاقة بين اللاجئين السوريين والمواطنين المصريين وبث الفتنة بينهما:
الواقعة الأولى: جرت منذ شهور، حين تقدم أحد المحامين الساعين للشهرة ببلاغ للنائب العام يطالبه فيه باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للكشف عن مصادر أموال السوريين الوافدين، بدعوى أنهم «غزوا المناطق التجارية في أنحاء كثيرة من مصر، واشتروا وأجروا الشقق والفيلات والمتاجر بأسعار باهظة، وحولوا بعض ضواحي العاصمة المصرية إلى مدن سورية، وروجوا لأنماط استهلاكية دخيلة على التقاليد والأعراف المصرية، تنم عن ترف مستفز». يلفت الانتباه هنا أن هذا البلاغ تضمن في الوقت نفسه تقديرا لا يعرف أحدا مصدره عن حجم الاستثمارات التي أدخلها رجال الأعمال السوريين إلى مصر منذ اندلاع الأزمة السورية، والتي وصلت إلى 23 مليار دولار، كما يدعي البلاغ الذي يؤكد أن هذه الأموال مكنت السوريين ليس فقط من «امتلاك الكثير من العقارات والأراضي والمصانع والمطاعم والمحلات التجارية»، وإنما أيضا من «الاستحواذ على أهم مصانع الأقمشة والمنسوجات، ومن السيطرة على مناطق التطوير العقاري في أهم وأرقى المناطق المصرية». ولم يكن مستغربا أن يختتم هذا المحامي بلاغه التحريضي متسائلا: «هل تخضع كل هذه الأنشطة التجارية لرقابة مالية من جانب الدولة المصرية، وهل لدى السلطات المعنية معلومات كافية عن مصادر تمويلها وطريقة دخول الأموال المستثمرة فيها إلى مصر، وحجم الأرباح التي تتحصل عليها، وطريقة إعادة وتصدير تلك الأرباح للخارج مرة أخرى».
مصر وسوريا كانتا يوما ما دولة واحدة، جمعتهما وحدة الهدف والمصير والغالبية ما تزال تشعر بحنين جارف إلى تلك الحقبة الذهبية
الواقعة الثانية: جرت منذ ايام، حين نشرت مواطنة من الإسكندرية فيديو على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، تشكو فيه من قيام مطعم سورى بتحويل شقة والدتها إلى «جحيم تسببه حرارة مرتفعة، تشع باستمرار من «بوتاجاز عشرة شعلة» لا يكاد ينطفئ، وروائح كريهة تنبعث منه بسبب عدم مراعاته لاشتراطات النظافة، وإزعاج دائم لسكان العمارة بسبب عدم احترام المحل لمواعيد العمل المقننة، أو المتعارف عليها». وكان من الطبيعي أن يثير هذا الفيديو تفاعلا وجدلا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أنه اقترن بفيديو آخر تستغيث فيه السيدة بالرئيس السيسي، وتدعي أن صاحب المطعم السوري «تطاول عليها، وأنه يستقوي بماله ونفوذه، لارتكاب مخالفات قانونية جسيمة تصيب المواطنين المصريين بأفدح الأضرار»، وتم إطلاق هاشتاغ «حق المصرية يا ريس». المثير للانتباه هنا أن التفاعل الصاخب على وسائل التواصل الاجتماعي، دفع الأجهزة المحلية للتحرك على الفور، وقامت ليس فقط «بتشميع وإغلاق المطعم» وإنما ايضا «بإزالة جميع الإشغالات التى كانت تعيق حركة المارة أمام هذا المطعم»، وأصدرت بيانا تقول فيه أنها «تمكنت من ضبط 30 كيلو لحوم داخل المطعم، تبين أنها مذبوحة خارج المجازر العمومية وغير صالحة للاستخدام الآدمي».
فهل يمكن الاستناد إلى هاتين الواقعتين، أو إلى غيرهما، للتدليل على وجود حملات كراهية منظمة ضد اللاجئين السوريين في مصر؟ لتفسير ما يجري على هذا الصعيد، ربما يكون من المفيد أن نمعن النظر في موقف السلطات الرسمية في مصر ممن يروجون لهذه الحملات، بصرف النظر عما إذا كانت مقصودة ومخططة سلفا أم عفوية وتلقائية، وأن نتساءل عن مدى كفاءة وفاعلية الإجراءات التي تتخذها هذه السلطات لمحاصرة هذه الحملات، والحد من أضرارها، خاصة وأنها تتكرر دوريا، وما إن تهدأ حتى تشتعل من جديد. وبينما لا يستبعد البعض تورط جهات رسمية في هذه الحملات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يرى البعض الاخر أن المشكلة الحقيقية تكمن في عجز النخبة الحاكمة عن فهم الأبعاد السياسية لهذا النوع من الأزمات، وتستسهل اللجوء إلى حلول أمنية لمعالجتها، ما يترتب عليه كالعادة ليس فقط فشلا ذريعا في علاج، أو احتواء هذا النوع من الأزمات، وإنما في تفاقمها أيضا، وسكب الزيت على نيرانها المشتعلة، وهو ما يبدو واضحا في الحالتين المشار إليهما آنفا. ففيما يتعلق بالواقعة الأولى، لاحظ عديد من المراقبين أن المحامي، الذي تقدم ببلاغ التحريض على كراهية اللاجئين السوريين وطالب بالتحقيق معهم، هو نفسه من اعتاد التقدم ببلاغات تحريض ضد أغلب رموز المعارضة السياسية في مصر، ولا يتردد في وصف كل معارض للنظام الحالي بالخيانة والعمل لحساب قوى أجنبية معادية. وحيث أنه يفترض أن هذه النوعية من الأشخاص لا تتحرك من تلقاء نفسها، يعتقد على نطاق واسع أن بعض الأجهزة الأمنية لا يتورع عن استغلال وتوظيف هذه المشكلات لتحقيق أهداف سياسية، بعضها يتعلق بالرغبة في صرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية التي تواجه البلاد، كالغلاء وتكميم الحريات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وغيرها من المشكلات الأكثر إلحاحا، وبعضها الآخر يتعلق بهواجس أمنية مبالغ فيها والأرجح أنها لا تستند إلى معلومات موثقة.
أما فيما يتعلق بالواقعة الثانية، فيلاحظ أن تصرف الأجهزة المحلية في الإسكندرية اتسم بقدر كبير من قصر النظر وسوء التقدير، بل انطوى على إدانة ذاتية لم تنتبه إليها هذه الأجهزة. فليس من الواضح ما إذا كانت استغاثة المواطنة المصرية المتضررة ناجمة عن شعور حقيقي بالرغبة في رفع ضرر وقع عليها بالفعل، أم أنه تصرف مدفوع أو موحى به من أوساط تسعى لإثارة الفتن والقلاقل. ولأن المخالفات المنسوبة لصاحب المطعم السوري هي من النوع الشائع في مصر، وترتكب يوميا من جانب العشرات ومئات الألوف من أصحاب المطاعم والمحلات، وتتم عادة بمعرفة الأجهزة المحلية الغارقة حتى أذنيها في هذا النوع من الفساد المقنن، فمن الطبيعي أن يثير تصرف هذه الأجهزة تجاه صاحب المحل السوري بالذات شكوكا مبررة حول حقيقة دوافعه وأهدافه، خاصة أن واجبها يقتضي العمل على تطبيق القانون على جميع المخالفين، بصرف النظر عن جنسياتهم، كما يقضي بالتحرك قبل توجيه استغاثات ونداءات إلى كبار المسؤولين، وليس بعد.
لا يخالجني أي شك في أن شعب مصر بريء تماما من أي شعور مضمر بالكراهية أو الحقد أو الغيرة تجاه اللاجئين عموما، وتجاه السوريين منهم على وجه الخصوص. وأعتقد أن الغالبية الساحقة من هذا الشعب تدرك وتعي تماما أن مصر وسوريا كانتا يوما ما دولة واحدة، جمعتهما ذات يوم وحدة الهدف والمصير، وأظن أن هذه الغالبية الساحقة ما تزال تشعر بحنين جارف إلى تلك الحقبة الذهبية التي توحدت فيها الأهداف والمصائر. لكنني أظن أن في مصر الراهنة مشكلات كثيرة تسعى أوساط وتيارات مختلفة لاستغلالها، حفاظا على مصالح شخصية تنمو وتتغذى على هذه المشكلات، حتى ولو تم ذلك على جثة الشعب نفسه. تلك هي المسألة!
القدس العربي