أقدم بوريس جونسون على تعليق عمل البرلمان في خطوة استباقية غير مفاجئة تهدف إلى تمرير قانون الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) من دون اتفاق. إنه بالنسبة للكثيرين “الانقلاب” والتحدي السافر للديمقراطية والازدراء بالدستور في أعرق الديمقراطيات في العالم.
لكن الأزمة العميقة التي تعيشها المملكة المتحدة منذ التصويت لصالح “البريكست” برّرت لرئيس الوزراء المثير للجدل ضربته للخروج من المأزق. لكن هذا لا يعني نهاية المتاعب مع إهمال التداعيات المحتملة، ولن تكفي إشادة الرئيس دونالد ترامب لطمأنة الرأي العام البريطاني الذي يتساءل عن مصير ما تبقّى من إمبراطوريته الغابرة وسط عودة نغمة العصبيات القومية وتراجع الديمقراطيات في أوروبا والعالم.
تبدو صورة المشهد العالمي سريالية إذا نظرنا إلى مشاكل وعثرات الديمقراطيات العتيقة من جهة، وإلى حركات الاحتجاج الأخيرة في روسيا وهونغ كونغ التي تبرهن على أنه لا يمكن تقييد الحرية وحبسها مهما كانت طبيعة الأنظمة، لكنها تدلل أيضا على التناقض الصارخ بين من يطالب بالديمقراطية نمطا وحاجة، وبين من يمتطي الديمقراطية لكي ينحرف بها عن مسارها. وهكذا في لعبة السلطة بأي ثمن يبرز الشعبويون والانتهازيون وتتهاوى منظومة القيم تحت وطأة المصالح الذاتية ويافطة الواقعية.
في هذا الإطار يمكن مقاربة بوريس جونسون ونهجه إذ أننا أمام عدة رجال في رجل: إنه عمدة لندن السابق، منتج النخبة الإنكليزية التقليدية والمهرّج الحائز على لقب “بوجو” في آن معا. لكنه أيضا السياسي المصمّم الذي لا يتوانى عن التضليل من أجل إنجاح استراتيجيته مثلما حصل خلال التعبئة للتصويت ضد البقاء في أوروبا، وهذا لم يمنعه من التصرف كرجل دولة مسؤول خلال قمة السبع الكبار في بياريتز إلى حد عدم التناغم في كل المواضيع مع صديقه ترامب الذي قال إنه انتظر طويلا وصول شبيهه البريطاني.
بيد أن الأهم بالنسبة لبوريس جونسون الوطني المحافظ يبقى من دون شك إتمام “البريكست” ولو على أسنة الرماح. وهذا ما يفسّر قراره الأخير المصادق عليه ملكيا عبر تعليق العمل في “ويستمنستر” من 9 سبتمبر إلى 14 أكتوبر مما يترك هامشا محدودا من الوقت قبل آخر أكتوبر للاعتراض البرلماني على سياسته الأوروبية. ويأمل رئيس الوزراء البريطاني من خلال تعليق عمل البرلمان لعب ورقة إضافية في مفاوضات الشوط الأخير مع بروكسل، وذلك قبل انعقاد قمة المجلس الأوروبي (17 و18 أكتوبر القادمين)، علّه ينتزع تنازلات إضافية أو لتغطيه الخروج من دون اتفاق.
يراهن جونسون على أن تكون الأسابيع القادمة قبل القمة الأوروبية فرصة لإبراز موقف بريطاني موحّد كان ينقص رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي خلال مفاوضاتها الشاقة والطويلة مع ميشال بارنييه المفاوض باسم الاتحاد. وإعادة فشل ماي إلى عامل الانقسام البرلماني لوحده فيه تبسيط وإنكار للانقسام الواسع حيال هذا الموضوع ولتشدد بروكسل التي رفضت جعل الخروج سهلا ومثالا يحتذى وتعميم العدوى.
من أجل الوصول إلى غايته وتحقيق هدفه لم يأبه جونسون بالاتهامات، ولم يهز مسامعه الكلام عن الفضيحة الدستورية والمناورة المريبة بالرغم من أصوات الاعتراض في حزب المحافظين وخاصة من داخل اسكتلندا ومن استهجان ورفض حزب العمال. وتشير الإحصاءات إلى أنه سيكون من الصعب جدا لزعيم المعارضة العمالية جيرمي كوربين طلب التصويت على سحب الثقة من حكومة جونسون. ومع غياب آليات دستورية لنقض قرار التعليق، ستتعامل الطبقة السياسية معه كأمر واقع خاصة أن الانتخابات المبكرة التي تبدو بديهية في حالات مشابهة لا تفرض نفسها تبعا لمزاج جونسون وخشيه القوى السياسية من نتائجها.
أمام زلزال “البريكست” وارتداداته توجد الليبرالية البريطانية على المحك إذ يهدد قرار جونسون التوازن بين السلطات ويطرح على الملأ فعالية مجلس العموم الذي استهلك حوالي سنتين من العمل من دون التوصل إلى مخرج مع الاتحاد الأوروبي. وهذه الهزة في الديمقراطية العريقة ليست قانونية ودستورية فحسب، بل اجتماعية مع التقشف في التقديمات الاجتماعية وخصخصة التعليم العام.
لا ينسى البعض استذكار التاريخ والإشارة إلى أنه في المرة الأخيرة التي جرى فيها تعليق عمل البرلمان عام 1640، انتهت الأمور إلى حرب أهلية وقطع رأس الملك تشارلز الأول.
وبالطبع الظروف مختلفة اليوم نتيجة مصادقة الملكة الحالية والكوابح الموجودة. إلا أن ما يثير القلق يتمثل في التخبط الداخلي وعدم الاستعداد، سياسيا واقتصاديا، لمواكبة الخروج الفجّ من الاتحاد الأوروبي. ويسود الاعتقاد بأن العلاقة الخاصة مع واشنطن وإطار الكومنولث لن يعوضا على بريطانيا خسارة مقعدها الأوروبي. والأدهى وجود احتمال تفكك وحدة المملكة المتحدة نظرا لهشاشة الوضع الأيرلندي وللمطلب الاسكتلندي بحق تقرير المصير.
يعول جونسون على قدرته لتمرير “البريكست” وإنجاز إعادة تعريف الأولويات الاستراتيجية لبريطانيا لناحية الاعتماد على العلاقة الخاصة مع الأخ الأميركي الأنغلوسكسوني، والتعامل بندية مع فرنسا وألمانيا وغيرهما داخل القارة الأوروبية. ويأخذ هذا التوجه الأطلسي زخمه بوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض. لكن مسار تطور الأمور من هونغ كونع إلى الخليج لا يدلّل على تقارب بين واشنطن والمملكة المتحدة، بل يشير إلى مسارات متباعدة في عالم لا يمكن قراءته وفق برمجيات القرنين التاسع عشر والعشرين.
العرب