قد يبدو من غير المعقول طرح هذا السؤال عن الاعتداءات المتكررة التي تتعرض لها مقار تابعة للحشد الشعبي في العراق وتوجيه الاتهام لإيران بحجة أن ذلك سيدفع باتجاه أن تزود إيران العراق بمنظومة دفاع جوي، بالرغم من أن الكيان الصهيوني نفسه يلمح إلى حد التصريح أنه هو من يستهدف الصواريخ الإيرانية في أي مكان تخبأها فيه إيران.
ليس هذا وحسب وإنما هناك تقارير لدى الحكومة العراقية وتتكتم عليها، تشير إلى مشاركة سعودية وكردية لتسهيل إسرائيل قصف مواقع في العراق من المناطق التي يسيطر عليها الأمريكيون، وبعلم الأمريكيين الذين يسيطرون على الأجواء العراقية.
كان واضحاً أن قصف مخازن سلاح الحشد الشعبي وأخرى تابعة للشرطة الاتحادية، والحشد الشعبي نفسه تكررت كثيراً وحتى في عهد رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، لكن الحكومة تفادت الاعتراف بها وتفادت بالتالي توجيه الاتهام للجهة أو الجهات المتورطة.
ورغم أن الحكومة وتحديداً رئيس الوزراء، تعرف بالقصة الكاملة حتى قبل فتح تحقيقي هذه الحوادث، إلا أنها آثرت ترحيل الحديث عن توجيه الاتهام لأن ذلك يعني أنها مطالبة في مرحلة تالية تحديد طبيعة الرد، وهذا ما لا تريده لأسباب كثيرة منها بالطبع الخشية من تداعيات ذلك على العملية السياسية الهشة في العراق، واحتمال دخول البلاد مرة أخرى في مرحلة ربما ستكُون أخطر من مرحلة “داعش” وقبلها في تفجير مرقدي الإمامين العسكريين عام 2006 .
في كل المرحلتين كان العراق يُدفع دفعاً للانزلاق في أتون حرب طائفية لا تبقي ولا تذر لتدميره وتقسيمه، لكن تدخل المرجعية العليا أحبط ذلك، إِن في فتوى الجهاد الكفائي التي لم تكن تخص طائفة معينة وكانت للدفاع عن مقدّسات جميع العراقيين بلا اختلاف بين أديانهم ومذاهبهم، أو قبلها في وأد فتنة “المرقدين في سامراء” بقوله المشهور “لا تقولوا السنّة اخواننا بل قولوا أنفسنا”.
وفي هذا الواقع تدرك الدولة العراقية متمثلة في الرئاسات الثلاث حجم الخطر المحدق بالعراق، وعمد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان إلى الاجتماع وإصدار بيان واضح في استخدام العراق منصة للاعتداء على جيرانه (في إشارة إلى إيران) ليمهد بذلك إلى اجتماع هام ومفصلي ضم قادة الحشد الشعبي غاب عنه بعضهم، وآخر مع القادة السياسيين.
جاء اجتماع الرئاسات مع قادة الحشد لضبط إيقاع القادة الذين يُخشى أن تكون لهم ردود فعل خارج إطار الدولة، وما يمكن أن يورط ذلك العراق في حرب مباشرة مع الطرف المعتدي.
وتم الاتفاق على أن تتولى الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي التحرك الدبلوماسي لمنع تكرار الاعتداءات من خلال الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي وأيضا إجراء اتصالات بالدول المعنية وعلى رأسها الولايات المتحدة لتأمين حماية الأجواء العراقية.
ورغم أن الحكومة لم توجه الاتهام رسمياً لأي طرف إلا أنها حملت الولايات المتحدة المسؤولية لأن الأجواء العراقية هي تحت حماية طيران التحالف الدولي الذي تقوده.
وقد يبدو هذا الإجراء “شكلياً” إذ ليس بمقدور الحكومة، ولا هي راغبة، في الدخول في مواجهة سياسية مع واشنطن في الوقت الحاضر على الأقل وهي تنجح في الظهور كوسيط أو مشارك في إطفاء نيران حرب يمكن تندلع على خلفية الأزمة بين إيران والولايات المتحدة، لكن الحاجة إلى “ضبط” الفصائل المسلحة خارج الحشد الشعبي، والحشد الشعبي نفسه ومنعه من تنفيذ تهديدات نائب رئيسه أبو مهدي المهندس في الرد على أمريكا وإسرائيل بعد أن اتهمهما بتلك الاعتداءات، يحتاج إلى أن يظهر عادل عبد المهدي الحزم مع الولايات المتحدة مستنداً في الوقت نفسه إلى الاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار التي تلزم الولايات المتحدة بالدفاع عن العراق ولا تعارض توجهه نحو دول أخرى كإيران وروسيا للحصول على منظومة دفاع جوي تحمي سماءه.
إلى إيران سر
صحيح أن واحداً من أعداء إيران أو كارهيها من العراقيين أو من باتوا يتحالفون معهم من خارج الحدود وعلى رأسهم الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، لم يوجه لإيران تهمة أن تكون هي من استهدف مخازن الحشد الشعبي، لأن مثل هذا الاتهام لم يفكر به أحد ليس لأن الحشد في رأي هؤلاء متحالف مع إيران أو موالي لها فلماذا تستهدفه إيران، بل لأنهم وجدوا طريقة أخرى لاتهام إيران بالقول إن الغارات استهدفت صواريخ وأسلحة إيرانية (بعدما قالوا دفع العراق ثمنها فصارت إذاً عراقية) يمكن أن تستخدم ضد السعودية واسرائيل والمصالح الأمريكية.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى تحضيرات نفسية سابقة في الاتهامات التي روجها هذا المحور إلى أن الطائرات المسيرة التي أغارت يوم 14 أيار/مايو الفائت على مضخات نفط في ينبع بالسعودية انطلقت من داخل العراق (قبل الاعتداءات الأخيرة على الحشد).
وإذ يعتقد هؤلاء بأنهم من خلال تلك الاتهامات واستهداف الحشد الشعبي سيضيقون على النفوذ الإيراني داخل العراق، لكنهم يدفعون بالحكومة نحو إيران للحصول منها على منظومة دفاع جوي خصوصاً وأن الحكومة التي تشكلت بتفاهم إيراني بريطاني شمل تفاهماً مع دول إقليمية أخرى انعكس بالتوافق بين تحالفي “فتح – سائرون” لم تحصل على هذه المنظومة من الولايات المتحدة.
وعلم في هذا الصعيد إن قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، زار العراق بعد آخر قصف للحشد الشعبي لبحث موضوع حماية الأجواء العراقية، كما زار سوريا في نفس الليلة التي أعلنت إسرائيل قيامها بشن غارات عليها، وإسقاط مسيرتين لها في الضاحية الجنوبية في لبنان!
ومن المقرر أن يطلب أعضاء من كتلة الفتح برئاسة هادي العامري من مجلس النواب في الفصل التشريعي المقبل بحث تواجد القوات الأمريكية وفق اتفاقية الإطار التي تعتبر مثل هذا التواجد “مؤقتا” جاء ويخرج بطلب من الحكومة العراقية، لكن الانقسام الحاد بين العراقيين حول تفسير ما حصل وأن نرد أو نصمت، قد يحول دون خروج جميع الأطراف بموقف موحد ينسجم مع بيان الرئاسات الثلاث الذي يسعى إلى أن يجعل هذه الأطراف ملزمة بدعم وحدة القرار العراقي.
ولتفادي حصول هذه الوحدة في الموقف من هذه التطورات ارتفع الحديث مجدداً حول “أداء الحكومة” الضعيف في الداخل وضرورة إسقاطها أو إحداث تغيير وزاري كبير ما جعل الرافضين يعتقدون أن المطالبين بإسقاط الحكومة ينفذون أجندة المحور الآخر غير المرتاح من موقف عادل عبد المهدي الرافض وفق الدستور في مادته الثامنة، والمنسجم أيضاً مع اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008 التي تلزم الولايات المتحدة بأن لا تستخدم أراضي ومياه وأجواء العراق منطلقاً أو ممراً لشن هجمات على بلدان أخرى وأن لا تطلب أو تسعى لأن تكون لها قواعد دائمة أو وجود عسكري دائم في العراق.
وبين المطالبين بإخراج القوات الأمريكية أو استخدام هذه المطالبة للضغط لكي تمنع الولايات المتحدة تكرار الاعتداء على الحشد الشعبي، والمطالبين بتغيير الحكومة، يتحرك المطالبون بحكومة إنقاذ وطني تطيح بالعملية السياسية، وتدخل العراق في نفق مرحلة ما بعد تنظيم الدولة.
القدس العربي