خلال مراسم إحياء الذكرى السنوية الثمانين لاندلاع الحرب العالمية الثانية جدّدت ألمانيا على لسان رئيسها فالتر شتاينماير، طلب الصفح من ضحايا العدوان الألماني على بولندا. مناسبة جديدة اجتمع فيها قرابة 250 ضيفا رسميا من 40 وفدا وطرحت فيها الكثير من الملفات منها المُستذكرة لما حفظه التاريخ عن دكتاتورية أدولف هتلر في مدينة فيلون البولندية ومنها ما يدعو إلى الاتعاظ من هذه الحرب الدامية في وقت تعيش فيه أوروبا على وقع تكاثر التوجهات القومية الشعبوية مثل ما يعيش العالم تماما حالة من الصراع المحتدمة والمنذرة بتفجر وضع مملوء بمخاطر تهدّد أمن العالم.
لن ننسى أبدا. نريد أن نتذكر وسنتذكر.. بهذه الكلمات طلب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي يشارك بولندا ذكرى الحرب العالمية الثانية، الصفح من ضحايا العدوان الألماني.
المراسم جرت في فيلون، المدينة البولندية الصغيرة التي كانت أول ضحايا الحرب العالمية الثانية، في الساعة نفسها التي سقطت فيها أولى القنابل عليها، منذ ثمانين عاما.
في حدود الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة، صباح يوم 1 سبتمبر 1939، عبر مليون ونصف المليون جندي ألماني تدعمهم ألفي طائرة و2500 دبابة الحدود البولندية الألمانية، معلنين بذلك بداية عملية اجتياح بولندا.
بعد يومين اتخذت بريطانيا وفرنسا قرار دخول الحرب ضد ألمانيا، ليشهد العالم بداية أحداث دامية استمرت ست سنوات. قرار عبور الجنود الألمان الحدود البولندية أصدره أدولف هتلر، الذي استلم مقاليد الحكم عام 1933، ليصبح أول مستشار نازي لألمانيا.
من هو أدولف هتلر، هل هو نتاج الصدفة، أم نتاج الأيديولوجيا، أم نتاج الاثنين معا؟
قبل عشرين عاما من بداية الحرب التي أشعل شرارتها، عمل هتلر جاسوسا للشرطة في ميونخ، وخلال مراقبته أنشطة حزب العمال الألماني، شدته أفكار المؤسس أنطون دريكسلر، خاصة نزعته القومية المتشددة المعادية للسامية والبلشفية.. وسرعان ما أعلن انضمامه للحزب.
قام هتلر بتصميم شعار الحزب الذي تغير اسمه لزيادة شعبيته ليصبح حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني، ومن هنا جاءت كلمة “نازي” التي هي اختصار للاسم باللغة الألمانية، وجاء الصليب المعقوف في دائرة بيضاء على خلفية حمراء. وبأقل من عامين استطاع هتلر أن يترقى السلم ليصبح رئيسا للحزب.
كانت هذه الصدفة الثانية في حياة هتلر، الصدفة الأولى حدثت قبل ذلك.شهدت طفولة أدولف، المولود في 20 أبريل 1889 في مدينة برونو النمساوية، كثيرا من المواجهات مع والده، الذي عرف عنه الطبع العنيف، وأكبر تلك المواجهات كان سببها تعلق هتلر بالفن والعمارة، ورفض الأب ميول ابنه.
الحرب العالمية الثانية بدأت، كما يقول الرئيس البولندي أندريه دودا، بجريمة حرب لا يمكننا أن ننساها حتى عندما يختفي شهودها
في سن الخامسة عشرة توفي والده بشكل مفاجئ، فسمحت له والدته بترك المدرسة بعد عامين. لينتقل عام 1907 إلى فيينا حيث عمل رساما، وتقدم لكلية الفنون الجميلة مرتين، ليجابه بالرفض في كل مرة، وبعد نفاد مدخراته انتقل إلى مأوى للمشردين.. سنوات قاسية أشار إليها هتلر لاحقا بأنها كانت منشأ أفكاره.
فشله في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، كان الصدفة الأولى التي رسمت كل ما سيأتي لاحقا، وقادته عام 1913 إلى مغادرة فيينا متجها إلى ميونخ، حينها كانت الحرب الأولى قد اندلعت. ومثله مثل الكثير من الشباب الفاشل في دراسته، تقدم للخدمة في الجيش متطوعا، كان ذلك عام 1914، وهو لا يزال مواطنا نمساويا.
تقول تقارير عن تلك الفترة، إن الإنجازات التي نسبت إلى هتلر في الميدان مبالغ فيها، مؤكدة أنه قضى معظم وقته خلال الحرب بعيدا عن جبهات القتال، باستثناء بعض المعارك، أصيب في واحدة منها، لينال شارة الجرحى ويتقلد وسام الشرف من الدرجة الأولى.
الشاب المعبأ بالأفكار القومية المتشددة، صدمته اتفاقية الاستسلام التي وقعتها ألمانيا عام 1918، بالنسبة له كان التوقيع خيانة، وألمانيا تعرضت لطعنة في الظهر، من القيادات المدنية ذات الميول الماركسية.
وكانت بنود المعاهدة، التي وقعت تحت اسم فرساي مخزية، فرضت على ألمانيا تحمل مسؤولية بدء الحرب، ودفع تعويضات للدول التي تضررت ولحق بها الدمار.
بدأت شعبية هتلر بالارتفاع مع استلامه رئاسة الحزب النازي، وشكلت الخطب التي راح يلقيها في النوادي عامل جذب للكثير من المؤيدين، وكان من بينهم، ايرنست روم، الذي عين رئيسا لكتيبة العاصفة، المنظمة شبه العسكرية النازية المعروفة باسم SA، التي أوكل لها مهمة التخلص من خصوم هتلر السياسيين.
جرأة هتلر دفعته عام 1923 إلى القيام بانقلاب فاشل، حيث أعلن، بحضور رئيس الوزراء البافاري جوستاف كار، عن قيام الثورة الوطنية وتشكيل حكومة جديدة. المغامرة كلفته تسعة أشهر قضاها سجينا، إلا أنها منحته فرصة للتفرغ كتب خلالها كتابه الشهير “كفاحي”. وعرف الانقلاب باسم “بير هول الفاشل”.
ورغم وعده السلطات الألمانية التي حظرت نشاط الحزب، أنه سيواصل النشاط بطريقة شرعية مرخصة، لم يلتزم بوعده، ليمنع إثر خطاب أثار الشغب من إلقاء خطبه في الأماكن العامة. وكان الحدث الأكثر أهمية بالنسبة له هو انضمام غوبلز للحزب والذي أصبح أداته الدعائية في ما بعد.
استطاع هتلر أن يحتكر السلطة في الحزب، مستبعدا فكرة الديمقراطية التي لم يكن يخفي ازدراءه لها، وكان في تلك الأثناء قد تحول إلى مايسترو في قراءة رغبات الجماهير الألمانية والعزف عليها، مستغلا إحباطها وشعورها بالإهانة من شروط معاهدة فرساي المذلة.
ومثلت موجة الكساد العظيم، التي اجتاحت العالم، فرصة أغدق هتلر خلالها الوعود، وأولها إخراج البلاد من الوضع الاقتصادي الكارثي. وفعلا استطاع أن يقود ألمانيا لتتوسع اقتصاديا، خاصة في المجال الصناعي، ولم ينس حبه الأول للفن والعمارة التي اهتم بها على نطاق واسع.
ورغم قيامه بإبرام العديد من التحالفات أواخر الثلاثينات، إلا أنه كان يبيت سرا النية لإشعال حرب تستعيد ألمانيا من خلالها أراضيها ومستعمراتها، ومن هنا كانت ذريعة ضم إقليم تشيكي ذي الأغلبية الألمانية، ثم بولندا وغيرها. وكان أول اصطدام سياسي له مع بريطانيا، التي تعهدت بحماية بولندا واستقلالها.
ومع إعلان كل من بريطانيا وفرنسا الحرب، أعلن الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت عن حفاظ بلاده على موقف الحياد قبل أن يضطر لدخول النزاع بشكل رسمي يوم 8 ديسمبر 1941، عقب الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر بهاواي.
في الأثناء، اتجه الاتحاد السوفييتي بعد مضي نحو أسبوعين عن بداية الاجتياح الألماني لتفعيل اتفاقية مولوتوف ريبنتروب، المعروفة أيضا باتفاقية عدم الاعتداء الألمانية السوفييتية، التي أبرمها مع حكومة هتلر يوم 22 أغسطس 1939.
ويوم 17 سبتمبر 1939، أمر القائد السوفييتي جوزيف ستالين جيوشه باجتياح الجزء الشرقي لبولندا تنفيذا لبند تضمنته الاتفاقية السابقة، ويقضي بتقاسم بولندا بين الطرفين.
وفي المقابل لم يدم مفعول الاتفاقية الألمانية السوفييتية كثيرا. فيوم 22 يونيو 1941، تخلى هتلر عن هذه الاتفاقية ونكث بعهده ليأمر ببدء عملية اجتياح الاتحاد السوفييتي المعروفة بعملية بربروسا.
ويرى كثيرون أن قرار هتلر اجتياح الاتحاد السوفييتي هو ما عجل بهزيمته وكتب نهاية مغامرته التي بدأها رساما فاشلا وختمها دكتاتورا ليختنق بقضمة هي أكبر من أن تبتلع.
بحلول عام 1945، أدرك هتلر أنه سيخسر الحرب. كان السوفييت قد دحروا الجيش الألماني وأجبروه على الانسحاب إلى أوروبا الغربية، وكان الحلفاء يجتاحون ألمانيا غربا.
وفي منتصف ليل التاسع والعشرين من أبريل، أراد هتلر أن يفارق الحياة بعد أن يتزوج من حبيبته إيفا براون، وتم ذلك في حفل صغير في مخبئه ببرلين.
وتقول القصة، التي لم تثبت صحتها بشكل قاطع، إن هتلر أقدم على الانتحار هو وزوجته بعد يوم واحد من زفافهما، تم نقل جسديهما إلى منطقة مجهولة حيث أحرقا.
ونحن ننحني اليوم مع شتاينمر لضحايا العنف، دعونا نتمعن بكلماته الأخيرة “من يدعي أن الأمر انتهى وأن رعب القوميين الاشتراكيين الذي هيمن على أوروبا حدث هامشي في التاريخ الألماني يحكم على نفسه”.
الحرب العالمية الثانية بدأت، كما يقول الرئيس البولندي أندريه دودا، بجريمة حرب لا يمكننا أن ننساها حتى عندما يختفي شهودها.
لا يختلف العالم في الحكم على هتلر، الجميع يعلم حجم الدمار والألم الذي تسبب به، ولكن دعونا بعد ثمانين عاما نتفق على شيء أكثر أهمية، كل من اعتقد نفسه على حق مطلق هو مشروع دكتاتور وإرهابي. يجب أن نتذكر ذلك والعالم يسترجع ذكرى حرب أودت بحياة 60 مليون قتيل.
العرب