هل يمكن الاستغناء عن الورقة الخضراء في النظام النقدي العالمي ؟!

هل يمكن الاستغناء عن الورقة الخضراء في النظام النقدي العالمي ؟!

شذى خليل*
قبل البدء بسرد الحقائق ، اعلم أيها القارئ الكريم كيف خدعت أميركا العالم للتعامل بالدولار الأميركي كعملة رئيسة غطاءها الذهب ، وتقويم الدول لعملاتها بالدولار ، ثم بين ليلة وضحاها تم إلغاء هذا الغطاء ، أي الارتباط بين الذهب والدولار !

بداية قصة سيطرة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي :
في عام (1792م)، تم إنشاء الدولار الأميركي واعتماده كعملة رسمية للولايات المتّحدة على شكل ثلاث فئات ، الفئة الأغلى كانت مصنوعة من الذهب ، والأقل منها قيمةً كانت مصنوعة من الفضة ، والأخيرة كانت مصنوعة من النحاس .
استمر العمل بهذا النظام المالي إلى العام (1861 م) حيث اندلعت الحرب الأميركية الأهلية بين الشمال والجنوب ، في حينها احتاجت حكومة الشمال المركزية المزيد من الأموال من أجل خوض الحرب ولم تكن ترغب بخسار كلّ ما لديها من الذهب والفضّة .
ما دفعها إلى إنشاء العملة الورقية (الدولار الأميركي بشكله الأخضر الحالي) عام (1862 م) وبدأت بطباعتها ، بنهاية الحرب الأميركية ، وكان مطبوع منها قرابة (461) مليون دولار .

آنذاك لم تكن العملة مغطاة بالذهب (المقصود بالتغطية بالذهب هو أن يكون بمقدورك استبدال العملة الورقية بالذهب متى ما أردت ذلك ، حيث أنّ العملة الورقية تكون قيمتها ذهبًا) ، إلّا أن الكونجرس الأميركي جرّم من يرفض التعامل بالدولار الأميركي آنذاك ، وفرض التعامل به ، وكان الدولار حينها مجرّد ورقة نقدية كثقة بينك وبين الحكومة ، ولم يكن يساوي شيئًا في الواقع حيث أنّه ليس مغطىً بالذهب .
إلّا أنّه وفي عام (1879 م) وبعد حصول تضخّم هائل في الولايات المتّحدة ، وخسارة الدولار الأميركي لجزء كبير من قيمته ، تمّ تغطية الدولار الأمريكي بالذهب ، حيث صار بمقدور الناس استبدال الدولارات الأمريكية الخضراء بالذهب متى ما أرادوا ذلك ، ما خفّض التضخّم وأنعش الاقتصاد .
في عام (1929 م) حصل الكساد العظيم (أزمة اقتصادية عالمية استمرت لسنوات) ، ما دفع الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” إلى إلغاء تغطية الدولار بالذهب عام (1933 م) ولكنّه أعاد تغطية الدولار بالذهب عام (1934 م) مع تعديلٍ نسبي لسعر الدولار للتخلص من إرهاصات تلك الأزمة .

النظام العالمي الجديد :
قبل أن تخرج الولايات المتّحدة منتصرةً من الحرب العالمية بعامٍ واحد ، بدأت تعمل على إنشاء نظامٍ عالمي جديد ، وبالتالي إنشاء نظام عالمي مالي جديد ، تكون الولايات المتّحدة والدولار الأمريكي رأس الهرم فيه ، وقد حصل ذلك عن طريق اتفاقية Bretton Woods سنة (1944م) ، حضر هذه الاتفاقية (44) دولة من حول العالم ، واستمر انعقاد المؤتمر لأكثر من (22) يومًا ، تمّ فيه توقيع عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظم التجارة العالمية الدولية ، بالإضافة إلى تطبيق بعض الشروط والقيود عليها ، أهمّ نتائج المؤتمر كان اعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى .

و تم تأسيس أدوات العولمة مثل صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، وما اصبح منظمة التجارة العالمية ، تمّ تثبيت سعر الذهب مقابل الدولار بـ(35) دولارا لأونصة الذهب الواحدة ، ليصبح الدولار عملة الاحتياط العالمية بدلا من الاسترليني ، وتمّ اقرار سعر الصرف الثابت للعملات الاخرى مقابل الدولار ، بحيث يمكن تغييرها الى دولارات وتحويل تلك الدولارات الى ذهب وبسعر ثابت ، ما دفع عددًا كبيرًا من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأمريكية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلًا كاحتياطي ، وصار عدد كبير من هذه الدول يستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي ، وقد ساعد في اقرار نظام سعر العملات الثابت ، امتلاك الولايات المتحدة حوالي نصف المخزون العالمي من الذهب في حينها.
في عام (1957 م) ، تجاوز حجم الأموال الخارجة من الولايات المتحدة ، تلك الداخلة إليها لأول مرة منذ تطبيق اتفاقية بريتون وودز ، فقد وجدت البنوك الأمريكية و المؤسسات المتعددة الجنسيات بأن الاستثمار وإقامة المنشآت الإنتاجية في مواطن العمالة الرخيصة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا أجدى من الاستثمار داخل الولايات المتحدة ، مع الإبقاء على أرباحها في الخارج .

حرب فيتنام وصدمة نيكسون :
خاضت الولايات المتّحدة حربا ضد فيتنام خلال الأعوام (1956-1975) ، اذ كانت بحاجة الى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب ، ولكن الدولارات لم تكن وحدها تكفي ، فالذهب الموجود في الولايات المتحدة (بل والعالم) لم يعد كافيًا ليغطّي الدولار الأمريكي ، حيث قامت الولايات المتّحدة بتجاوز الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة ، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحدًا بذلك.
والأمر الذي أدى الى تعظيم الازمة وكشفها ، عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام (1971 م) بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب (طالب بتحويل 191 مليون دولار إلى ما يقابلها من الذهب ، وكان سعر الأونصة 35$) ، عملًا باتفاقية Bretton Woods التي تسمح بذلك ، أدّى هذا الأمر إلى عجز الولايات المتّحدة لاحقًا عن تحويل أي دولارات أمريكية إلى الذهب ، مما دفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيان في عام (1973 م) يلغي فيه التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب ، عُرفت لاحقًا باسم Nixon Shock أو صدمة نيكسون .

ان ما فعله نيكسون هو استبدال معيار الذهب بمعيار الدولار وفرض العملة الأمريكية على العالم كأمر واقع ، كان القرار الأمريكي في نظر الكثيرين أكبر سرقة في التاريخ ، لو كان احدهم يدخر بــ350 دولار ، فكأن لديه ما يعادل عشر أونصات من الذهب حسب التزامات الولايات المتحدة السابقة ، لكنّ الان أصبحت مدخراته تساوي أونصة واحدة عندما قفز سعر الذهب الى 350 دولار للأونصة ، فمن الذي سرق منه تسعة أونصات من الذهب ؟!
استبدل النظام المالي الجديد غطاء الذهب الاصفر بالذهب الاسود (البترول) وذلك عن طريق اجبار العالم بالتواطؤ من دول أوبك الكبرى باعتبار الدولار هو عملة الصرف الوحيدة المقبولة في الدفع عن أثمان النفط .

إذ اصبح اعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى ، ضمن تلك الاتفاقية التي أدّت إلى تشكيل نظام الصرف الأجنبي ، وبتشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير ، رسّخت هيمنة الدولار الأمريكي على تعاملات العالم الاقتصادية.
أما الذهب ، فأصبح حرًا بعدها ولم يعد أحد يتحكّم فيه سوى العرض والطلب ، وأصبحت جميع العملات بما فيها الدولار الأمريكي تقف على أرضٍ واحدة ، وصارت كلّها عملاتٍ إلزامية ورقية لا قيمة لها في الواقع سوى التزام الحكومات بها ، انخفضت قيمة الدولار بأربعين ضعفًا من عام (1973) إلى الآن ، وارتفع سعر الذهب بشكلٍ جنوني ، وأصبح سلعةً عادية مثله مثل الفضّة والبلاتين وغيرها.

كانت صدمة حقيقية للدول على مستوى العالم ، إنّها خدعة تمّ خداع العالم بأسره بها ، فبعد أن كانت تعمل على مرّ السنوات لتكديس الدولار الأمريكي كاحتياطي للنقد الأجنبي لتستبدله بالذهب عندما تريد ، أصبحت الآن غير قادرة على ذلك ، والأسوأ من كلّ ذلك هي أنّها كانت ما تزال مجبرة على التعامل بالدولار ، لأنّها لا يمكنها التخلّي عنه بعد أن قامت بتكديس كلّ هذه الدولارات في الاحتياطي النقدي الأجنبي ، وإلّا ضاعت أدراج الرياح.
وأخيراً تمّ فرض الدولار على العالم باعتباره العملة الوحيدة المستعملة لتجارة النفط ، وهكذا يتم خلق أوضاع تملي إقبالاً عظيماً على شراء الدولار وبشكل إجباري ، بما يسمح لمطابع العملة الورقية الأمريكية بمواصلة العمل على طبع ما تشاء من الأوراق النقدية طالما بقي النفط المصدر الرئيسي للطاقة في العالم ، وعلى سبيل المثال عندما يكون الاستهلاك العالمي (90) مليون برميل في اليوم وكما كان بسعر (100) دولار للبرميل ، وذلك يعني أن مطابع الدولارات الامريكية تستطيع ان تطبع تسعة مليارات دولار في اليوم ، يُجبر العالم على شراءها لسداد فاتورة النفط .

مع أن كلفة المئة دولار على الخزينة الامريكية لا تزيد عن عشر سنتات ، وأن هذه النقود سيتم تقييدها في البنوك الامريكية أو شراء سندات خزانة امريكية ، ما عدا ما تصرفه الدول المنتجة على منتوجاتها الاستهلاكية ، وشراء الاسلحة ، فستبقي بقية تلك الاموال داخل الاقتصاد الامريكي والغربي ، وبذلك تتحول مادة النفط الى أوراق وهمية في خزائن الدول الغربية .
الدول النامية عاشت المشكلة الكبرى ، التي اضطرت الى الاستدانة من البنوك الغربية لسداد فواتير نفطها بسبب ارتفاع الأسعار ، ما أوقعها في دوامة صندوق النقد الدولي وشروطه التي تؤدي الى تسليم سيادة الدول مقابل تلك الشروط .
قد يتساءل أحدهم : ولماذا لا تقوم هذه الدول بفكّ الارتباط من الدولار وإلغاء التعامل به ؟ لأنّ الأسطول الأمريكي الذي يجوب العالم ليس موجودًا لحراسة فراغ ، فالقوة العسكرية هي من تحمي القوة الاقتصادية .

وهكذا ، تحوّل الدولار إلى أضخم عملة نقدية احتياطية أجنبية على مستوى العالم ، حيث صارت جميع الدول مرغمة على التعامل به ، بالإضافة إلى كونه العملة الرئيسية التي يتم تحديد باقي العملات بناءً عليها ، ما رسّخ الهيمنة الأمريكية على اقتصاد العالم .
الولايات المتحدة جاءت بأكاذيب عدة ، وزرعت أساطيلها فوق الأراضي العربية المنتجة للنفط ، وبنت قواعدها العسكرية ومطاراتها فوق كل حقول النفط لحماية مصالحها لا لحماية الدول المنتجة ، واليوم تتكلم أمريكا بمنطق المستعمر ، وتطلب أتاوات من دول النفط ، للقوات الامريكية مقابل بناء قواعد على أراضيها ، يا أيتها الدول العربية ، لديكم سلاح النفط ، هل لديكم الإرادة لتكونوا قوة اقتصادية وسياسية لها ثقلها في المنطقة موازية لقوى العالم ؟!

وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية