مع بداية سبتمبر (أيلول) الحالي، سُمعت أصوات ألعاب نارية ورصاص، اختلطت مع خصومات على مواقع التواصل ومخاوف وتحذيرات من مواجهات في الشارع… أناس يحتفلون وآخرون يعترضون. هكذا يستقبل الليبيون هذا الشهر من كل عام خلال الأعوام التسعة الماضية، إذ في هذا اليوم يقسم الزعيم السابق معمر القذافي الشعب الليبي إلى قسمين متنافرين على الرغم من مضي أكثر من 8 سنوات تقريباً على موته، فالأول من سبتمبر يوافق ذكرى انقلابه على النظام الملكي في العام 1969. وتنقسم البلاد حول هذا التاريخ فيعتبره البعض “عيداً” والبعض الآخر يصنّفه “نكسةً” أودت بالبلاد إلى ما آلت إليه الأمور بسبب هذا “الانقلاب” أو “الثورة”، فلا توافق حول التسمية أيضاً في البلد الغني بالثروات الطبيعية والمبتلي بصراع حاد للسيطرة على أراضيه ومقدراته.
استنفار أمني
مع دعوات أنصار النظام السابق إلى الاحتفال بالذكرى الـ 50 لتوليه الحكم في البلاد شهدت بعض المناطق الليبية مظاهر استنفار أمني ملحوظة في الليلة التي سبقت الذكرى الخمسين لانقلاب القذافي على نظام الملك إدريس السنوسي، بخاصة في بنغازي التي انطلقت منها شرارة الثورة ضد نظامه. وتمركزت قوات أمنية وعسكرية في ساحة “الكيش” المعروفة في المدينة بسبب دعوات لأنصار القذافي للخروج إليها للاحتفال تخوفاً من وقوع مواجهات بين مناصري القذافي ومعارضيه مثلما حدث في التاريخ ذاته منذ سنتين.
بيان لعائلة القذافي
نشرت عائلة القذافي بياناً حفّز مناصريه للاحتفال، جاء فيه إن “ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 ستبقى في أذهان الليبيين بفضل معانيها الخالدة التي ستبقى نبراساً للشرفاء حتى يتحرر الوطن من نكسة فبراير (شباط) 2011″، في إشارة إلى الانتفاضة الشعبية التي أطاحت النظام السابق. وتابعت عائلة القذافي في البيان الذي نشر على صفحتها على موقع “فيسبوك” “ونحن نترقب اطلالة العيد الـ 50 لثورة الفاتح من سبتمبر نحيي جماهير شعبنا الوفية والتي بدأت تستعد لإيقاد شعلة الاحتفالات في كل ربوع الوطن ابتهاجاً بهذا الحدث التاريخي الكبير”. وأضاف البيان أن “الشعب الليبي العظيم وهو يستحضر في هذه الأيام، البيان الأول لثورة الفاتح، ويستلهم ملاحم النضال التاريخية، والإرث العظيم للقائد الرمز معمر القذافي، قادر على الاضطلاع بدوره التاريخي تجاه ليبيا الجريحة، على الرغم من أنف الخونة والعملاء والمليشيات وأنف أعوانهم الغزاة”. وطالبت العائلة الليبيين، بالعمل يداً واحدة وبقلوب مفتوحة والوقوف صفاً واحداً ضد ما سمّته “نكبة الوطن، نكبة فبراير”.
من هو القذافي؟
ولِد معمر القذافي 7 يونيو (حزيران) 1942 وتوفي في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 على يد الثوار الذين انتفضوا ضد حكمه في 17 فبراير 2011 بعد صراع مسلح خاضوه ضد كتائبه المسلحة لثمانية أشهر بمساعدة من قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي فوضها مجلس الأمن بمهمة دعم الثورة وحماية المتظاهرين والمدنيين في مارس (آذار) 2011. وعُيّن القذافي كأول رئيس لمجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية الليبية بين العامين 1969 و1977، واستبدل الدستور الليبي للعام 1951 بقوانين استندت إلى عقيدة سياسية سُميت “النظرية العالمية الثالثة”، ونُشرت في الكتاب الأخضر الذي وضعه بعد تأسيس ما سماه “نظام الجماهيرية”. وقسّم القذافي كتابه إلى ثلاثة أجزاء: الأول سياسي والثاني اقتصادي والثالث اجتماعي، كل فصوله من بنات أفكاره وجعله دستوراً رسمياً للبلاد، بعدها صار يُعرف بـالأخ القائد للجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية (1977 – 2011). في عام 2008 عُقد اجتماع لزعماء أفريقيا ومُنح القذافي لقب “ملك ملوك أفريقيا” ورئيساً لما أطلق عليه اسم “الولايات المتحدة الأفريقية”، وشغل منصب رئيس الاتحاد الأفريقي منذ 2 فبراير (شباط) 2009 وحتى 31 يناير (كانون الثاني) 2010.
في الأول من سبتمبر 1969 تحركت مجموعة من ضباط الجيش الليبي يقودهم ضابط شاب لم يتجاوز الـ 27 سنة من عمره، اسمه كان مجهولاً، لكنه سيظل بعدها في التاريخ الليبي إلى الأبد وسيمتد حكمه المثير للجدل لأربعة عقود. حكمه كان شمولياً اشتراكياً ولكنها اشتراكية مختلفة شكلاً ومضموناً، اخترعها الرجل ودوّنها في كتيّب من ثلاثة أجزاء جعله دستوراً للبلاد.
واشتهر القذافي بمغامراته الغريبة ومعاركه ضد الغرب، في حين لم يتساهل أبداً مع معارضيه، فبثّ إعداماتهم على الهواء مباشرة عبر التلفزيون الليبي، تحت تهمة الخيانة العظمى للبلاد. تأثر في بداية حكمه بالزعيم المصري جمال عبد الناصر فاتخذ القومية العربية شعاراً له وطابعاً لنظامه ونادى بالوحدة العربية وخاض تجارب وحدوية مع مصر والسودان، لكنها لم تعمّر طويلاً كمثيلتها من التجارب العربية المشابهة، قبل أن يتخلى عن التوجه القومي متجهاً نحو إفريقيا، محاولاً إنشاء اتحاد أفريقي على غرار الاتحاد الأوروبي، وهو المشروع الذي استهواه في سنوات حكمه الأخيرة إلى حين مقتله من دون أن ينجح في تحقيق حلمه.
صراع مع الغرب
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، دعم القذافي علناً الحركات المتمردة في العالم، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة نلسون مانديلا، الجيش الجمهوري الإيرلندي وجبهة البوليساريو المتمردة في الصحراء الغربية للمغرب. وأدى ذلك إلى تدهور علاقات ليبيا الخارجية مع دول عدة بخاصة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وبلغ هذا الخلاف ذروته في القصف الأميركي على ليبيا في عام 1986 في عهد الرئيس رونالد ريغان والحصار الدولي الخانق الذي فُرض على البلاد بعد اتهام القذافي بتدبير وتنفيذ حادثة تفجير طائرة أميركية فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية. وامتد ذلك الحصار عقداً كاملاً. إلا أنه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وسقوط نظام صدام حسين في العراق في العام 2003، لجأ القذافي إلى المهادنة مع الغرب ودفع نظامه تعويضات لعائلات الضحايا في حادثة تفجير طائرة “بان أميركان” في لوكربي وانفتح نظامه على الدول الغربية وأصبحت العلاقات معه طبيعية إلى حد ما.
ينقسم الشارع الليبي على كل المستويات حول تقييم فترة حكم القذافي. ويرى أحد مناصريه في بنغازي إن “فترة حكم القذافي تُقيَّم بشكل غير منصف الآن. في عهد القذافي كان الأمن متوافراً والتعليم مجانياً والعلاج مجانياً والبلاد ذات سيادة والاقتصاد مستقر ومستويات الفقر منخفضة. أريد أن أسأل معارضي الرجل وأتمنى منهم إجابة منصفة أين نحن من كل ذلك الآن بعد تسعة أعوام على موت القذافي وزوال نظامه؟ وماذا حققت لكم الثورة؟”.
ويرد صلاح عمران أحد معارضي نظام القذافي بأنه “نعم كان التعليم مجانياً والعلاج أيضاً ولكن جودة ما يُقدم إلى الليبيين من تعليم وعلاج كانت رديئة، التعليم كان مسيساً، وفرض النظام تدريس مواد تتحدث عن أفكار القذافي وعبقريته وأنها سبيل الخلاص ليس لليبيا فقط بل للعالم أجمع. التعليم في ليبيا كان في الحقيقة تجهيلاً بطرق رسمية وحشواً للتفاهات في رؤوس الناس إضافة إلى إدخالها في صراعات دولية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ناهيك عن إهدار أموال البلاد على دعم المجموعات المسلحة المتمردة في كل بقاع الدنيا”. وأضاف عمران “كان العلاج مجانياً في مستشفيات ليبيا نعم، ولكن أبناء الشعب الليبي كانوا عندما يمرضون يتوجهون إلى تونس ومصر بسبب عدم ثقتهم في الطب الليبي وعدم توافر وسائل الطب الحديثة في مستشفيات البلاد. حتى القذافي نفسه عندما مرض عولج في سويسرا لعدم ثقته في الطب الليبي إبان حكمه. رحل الرجل تاركاً البلاد بلا مؤسسات ولا جيش ولا أي شيء. نعم انهارت البلاد ولكن في الحقيقة هو الذي يتحمل المسؤولية كاملة”.
عض أصابع الندم
ولوحظ في السنوات الأخيرة تراجع بعض المعارضين الذين انتفضوا ضد نظام القذافي عن مواقفهم السابقة ضده. ويقول أحدهم وهو صحافي شاب في بنغازي، ومن الذين شاركوا في ثورة فبراير، أنه “يعض أصابع الندم” على مواقفه السابقة، مبيناً الأسباب، بالقول إن “الوضع الاقتصادي تدهور بسبب زيادة انتشار الفساد أولاً وضعف السلطة السياسية وتشظيها، إضافة إلى تدني أسعار النفط، وفرض الحظر على توريد النقد الأجنبي، وتجميد الأموال في الخارج بسبب انتشار الإرهاب، كسبب معلن من الأمم المتحدة ورغبة بعض الدول في الاستفادة من الأموال الليبية في الخارج أطول وقت ممكن، إضافةً إلى ضعف الدولة عند ممارسة سيادتها على أموالها ومواردها والوضع الأمني متردٍ أيضاً باستثناء بعض المناطق التي تحل فيها التنظيمات الاجتماعية القبلية محل الدولة في فضّ النزاعات بالطرق العرفية، ما انعكس على الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد.”
وما بين المعارضين والمؤيدين، تقف فئة من الشارع الليبي موقفاً وسطياً لا تميل إلى أي من الطرفين. ويقول المواطن إبراهيم الشيخي “الحقيقة أن هذا اليوم أصبح صداعاً لرؤوسنا وموجعاً لقلوبنا لأنه يزيد البلاد المنقسمة انقساماً. والمضحك المبكي أنه صراع لا فائدة منه، حول رجل ميت. ورأيي أن لا النظام السابق ولا الجديد قدما شيئاً للبلاد يستحق هذه المناصرة لأي طرف، أنظر حولك تشاهد بلداً مهشماً، فقيراً على غناه ضاق بنا على سعته، لم ننعم بخيره أبداً كغيرنا من الشعوب لا سابقاً ولا لاحقاً”.
اندبندت العربي