لم يكن بائع الكتب المغمور نسبيا في هونغ كونغ “لام وينغ كي” يحلم أن يصبح يوما شخصية عامة، خاصة من باب السياسة التي لم يكن مغرما بها يوما، فبالنسبة إلى “وينغ كي” -شأنه شأن أغلب بائعي الكتب في الجزيرة الصغيرة المتاخمة لبر الصين الرئيس- لم يكن بيع الكتب أكثر من حرفة متوارثة لكسب العيش، لكن هذه المهنة على وجه التحديد كانت كفيلة بوضع “لام” ورفاقه من بائعي الكتب في قلب معركة سياسية محتدمة حول طبيعة النظام السياسي الفريد في هونغ كونغ وعلاقته بالسلطة المركزية في بكين، بل في أتون صراع جديد محتدم حول الهيمنة العالمية بين الصين الصاعدة وبين الولايات المتحدة الحاكم الفعلي للعالم الحر.
ففي عام 2015، اختفى(1) لام -البالغ من العمر آنذاك 61 عاما وصاحب مكتبة تُدعى “كوزواي باي بوكس”- وخمسة آخرون من بائعي الكتب المرموقين في هونغ كونغ في ظروف غامضة، وسرعان ما اكتشف الجميع أنهم اعتُقلوا من قِبل السلطات الصينية ووُجّهت لهم تهمة محاولة الإطاحة بالحكومة الصينية عن طريق إرسال كتب غير قانونية إلى بر الصين الرئيس، حيث تحظى المكتبات في هونغ كونغ بشعبية خاصة بين العملاء الصينيين الذين كانوا يعبرون إلى الجزيرة للحصول على الكتب المحظورة التي تتناول الخلافات والفضائح الشخصية للسياسيين الصينيين رفيعي المستوى، ورغم أن الصين تغاضت عن هذا النشاط لدور الكتب في هونغ كونغ لفترة طويلة، يبدو أن “كوزواي باي بوكس” ذهبت أبعد من اللازم حين نشرت كتابا تناول علاقات نسائية مزعومة للرئيس الصيني “تشي جين بينغ” خارج إطار الزواج.
بائع الكتب لام وينغ كي (رويترز)
قُبِض على “لام” في مدينة شنتشن جنوب الصين، وجرى عصب عينيه واقتياده بالقطار ثم بالسيارة إلى مقر الاحتجاز حيث اعتُقل ثمانية أشهر كاملة في ظروف قاسية، قضى خمسة منها في غرفة صغيرة تمت مراقبته فيها على مدار الساعة، وخضع للاستجواب أكثر من ثلاثين مرة إلى درجة دعته للتفكير في الانتحار، قبل أن تقرر السلطات الإفراج عنه فجأة بكفالة وإعادته إلى موطنه الأصلي في هونغ كونغ بعد أن أُجبِر(2) على توقيع خطاب اعتراف واعتذار عن بيع الكتب بطريقة غير مشروعة، وتوقيع وثيقة أخرى تعهّد فيها بالتخلي عن حقه في الاتصال بأسرته أو تعيين محامٍ خلال فترة احتجازه، مع تعهّد بالعودة إلى الصين مجددا لتسليم قرص يحتوي على بيانات جميع مورديه وعملائه من مشتري الكتب.
وعلى عكس رفاقه الآخرين من بائعي الكتب الذين آثروا السلامة، وفضّلوا الإذعان للشروط الصينية وحافظوا على تعهّداتهم بالعودة إلى البر الرئيس لاستكمال التحقيقات وناشدوا السلطات الإدارية لهونغ كونغ عدم التدخل، اختار لام طريقا مختلفا(3) وقام في يونيو/حزيران 2016 بعقد مؤتمر صحفي ليخبر العالم بما حدث له، قبل أن يقوم بقيادة مسيرة بطول كيلو متر كامل من مكتبته الخاصة إلى مكتب الاتصال بالحكومة المركزية الصينية في هونغ كونغ في ظل وجود شائعات حول مطالبات الحكومة الصينية للسلطة الإدارية في هونغ كونغ بتسليم لام، وهو ما دفع حكومة الإقليم لإعلان أنها لا تنوي تسليم لام إلى السلطات الصينية، وأن البلاد لا ترتبط بقانون يلزمها بتسليم المطلوبين إلى الحكومة المركزية في الصين من الأساس.
فبموجب دستور هونغ كونغ، والاتفاقية الموقّعة بين الإمبراطورية البريطانية والصين منتصف الثمانينيات، تُعدّ هونغ كونغ منطقة إدارية خاصة تتمتع بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي داخل الدولة الصينية بموجب إطار يُعرف باسم “دولة واحدة ونظامان”، وهو إطار يُعرّف أبناء هونغ كونغ على أنهم مواطنون صينيون يوالون الدولة الصينية لكنهم يتمتعون باستقلالية في النظام السياسي مع ولاية قضائية مستقلة ونظام اقتصادي وجمركي خاص، ونظام أمني وشرطي منفصل عن بر الصين الرئيس، وبينما تحكم الصين عبر نظام سياسي شمولي مع اقتصاد خاضع لهيمنة الدولة والحزب الشيوعي ومؤسسات أمنية قمعية، تتمتع هونغ كونغ بنظام سياسي ديمقراطي نسبيا وسوق حرة مزدهرة لممارسة الأعمال ونظام أمني خاضع للرقابة من قِبل سلطة قضائية مستقلة.
ولكن هذا النظام المستقل يتعرض لضغوط متواصلة من الحكومة الصينية التي عملت على مدار العقود الماضية على تقويض الحكم الذاتي في هونغ كونغ شيئا فشيئا دون أن تمس رسميا إطار “دولة واحدة ونظامان” الذي تمسك به مواطنوها، وكانت أحدث الخطوات في هذا الصدد هي قانون تسليم المجرمين المثير للجدل الذي طرحته الرئيسة التنفيذية لهونغ كونغ والموالية للصين “كاري لام” في الأول من فبراير/شباط الماضي، والذي يمنح الحكومة حق تسليم المطلوبين لمحاكمتهم في بر الصين الرئيس، وهي خطوة كانت كافية لإثارة ذعر بائع الكتب “لام” وأمثاله من المطلوبين لبكين على ما يبدو، ودفعته لمغادرة بلاده والانتقال للإقامة في تايوان بعيدا عن متناول اليد الباطشة للحكومة الصينية.
غير أن قانون التسليم المثير للجدل لم يمر مرور الكرام كما كانت الصين والحكومة في هونغ كونغ تأملان على ما يبدو، وتسبّب(4) في إثارة مظاهرات مليونية غير مسبوقة منذ ثورة المظلات الشهيرة في الجزيرة عام 2014، مظاهرات اندلعت على موجات في أشهر فبراير/شباط وأبريل/نيسان ويونيو/حزيران تزامنا مع المراحل المختلفة لمناقشة القانون، ما دفع السلطات لتخفيف لغة القانون واستثناء المنشقين السياسيين والمحكوم عليهم بالإعدام وحتى المتورطين في جرائم مالية من التسليم، قبل أن تضطر الحكومة تحت وطأة الضغوط للإعلان عن تجميد المناقشات حول القانون بشكل مؤقت، لكنها تمسّكت بعدم سحبه كليا.
لم تكن التنازلات الطفيفة التي قدمتها الحكومة كافية لإرضاء طموح المتظاهرين الذين واصلوا فعالياتهم الاحتجاجية التي أخذت صورا أكثر عنفا خلال شهري يوليو/تموز المنصرم وأغسطس/آب من العام الحالي، مع توسع المطالب لتتجاوز قانون تسليم المجرمين إلى المطالبة باستقالة كاري لام نفسها، وإدخال إصلاحات سياسية تضمن انتخاب الرئيس التنفيذي للبلاد بالاقتراع المباشر وليس من قِبل لجنة مؤلفة من 1200 عضو يهيمن عليها الموالون للصين بشكل كبير كما يتم حاليا، وفي الوقت الذي تحتدم فيه المواجهات بين المتظاهرين والحكومة الموالية لبكين دون أي بوادر تلوح في الأفق للانفراج، يبدو أن الصراع في هونغ كونغ تجاوز مجرد كونه صراعا داخليا محدودا حول قانون تسليم المجرمين، أو حتى مجرد معركة حول الاستقلال السياسي لهونغ كونغ وفاعلية إطار “دولة واحدة ونظامان” الذي يحكم العلاقة بين الصين والجزيرة؛ ليتحول إلى جولة كبرى وحاسمة في الحرب الباردة الجديدة التي تدور رحاها هذه المرة بين الصين والولايات المتحدة حول تعريف النظام العالمي الجديد ومن سيملك الهيمنة عليه خلال العقود المقبلة.
دولة واحدة.. ونظامان
لفهم العلاقة المعقدة بين الصين وهونغ كونغ، نحتاج إلى الغوص قليلا في تاريخ الصين وجغرافيتها، وتحديدا تاريخ وجغرافيا الأنهار الصينية الثلاثة الرئيسة، وهي النهر الأصفر ونهر يانغتسي ونهر اللؤلؤ، حيث يُمثّل كل نهر إحدى مراحل التوسع الإقليمية للأمة الصينية. فبادئ ذي بدء، كان هناك النهر الأصفر الذي يُمثّل مهد الحضارة الصينية والذي عاش في حوضه الأسلاف الأوائل للشعب الصيني قبل أن يتمددوا جنوبا على حساب القبائل والجماعات العرقية التي سكنت حول نهر يانغتسي، أطول أنهار الصين اليوم، وأخيرا تمددت الحضارة الصينية إلى الجنوب مجددا نحو نهر اللؤلؤ في عهد سلالتي الشين والهان اللتين حكمتا الصين منذ عام 211 قبل الميلاد حتى عام 220 بعد الميلاد.
منذ ذلك التوقيت، أصبح(5) الهدف الرئيس لجميع السلالات والأنظمة الحاكمة في الصين هو الحفاظ على السيطرة السياسية على هذه المناطق الثلاث، بما في ذلك المنطقة الجنوبية المحيطة بنهر اللؤلؤ حتى أواسط دلتا النهر والتي خضعت للسيطرة الصينية على مدار أكثر من ألفي عام. وخلال تلك الفترة، لم تكن هونغ كونغ -الجزيرة القاحلة ذات الكثافة السكانية المنخفضة والأهمية الإستراتيجية المنعدمة على حافة دلتا اللؤلؤ- تعني كثيرا بالنسبة للصينيين، غير أنها تحوّلت في عهد الاستعمار البريطاني إلى أكثر من ذلك بكثير، فبالإضافة إلى جزيرة هونغ كونغ الأصلية التي تنازلت عنها الصين نهائيا للإمبراطورية البريطانية وفقا لمعاهدة نانجينغ عام 1842 مع نهاية حرب الأفيون الأولى، ضمت هونغ كونغ البريطانية شبه جزيرة كولون التي تم التنازل عنها بموجب معاهدة بكين عام 1860 إبان حرب الأفيون الثانية، وأيضا “الأقاليم الجديدة” التي أُجبرت الصين على تأجيرها لبريطانيا لمدة 99 عاما لتوسيع إقليم هونغ كونغ بموجب معاهدة بكين الثانية عام 1898، ومن بين المناطق الثلاثة لهونغ كونغ، تبقى جزيرة هونغ كونغ هي المنطقة الوحيدة التي لا تتصل مباشرة ببر الصين الرئيس.
اكتسبت(6) هونغ كونغ الجديدة والموسعة أهمية إستراتيجية تفوق أهمية الجزيرة النائية وحدها، لذلك لو كان الأمر بأيدي بريطانيا فإنها لم تكن لتعيد هونغ كونغ إلى الصين أبدا، وفي الواقع فإن الحكومة البريطانية سعت للاتصال بنظيرتها الصينية في الثمانينيات على أمل تجديد عقد الإيجار في الأقاليم الجديدة، غير أن الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ رفض الطلب البريطاني وأبلغ البريطانيين أن الصين تخطط لاستعادة هونغ كونغ بأكملها وليس فقط الأقاليم الجديدة مع نهاية مدة الإيجار. وبحلول الوقت الموعود عام 1979، كانت الإمبراطورية البريطانية قد ذوت بالفعل ولم يكن أمامها خيار سوى قبول المطالب الصينية التي تم تجسيدها في الإعلان الصيني البريطاني المشترك لعام 1984 والذي نص على عودة هونغ كونغ إلى السيادة الصينية بحلول عام 1997، لكن مع تعهد أن النظام السياسي والاقتصادي الفريد للجزيرة سيبقى كما هو دون تغيير لمدة 50 عاما قادمة، أي حتى عام 2047.
من وجهة الصين، لم يكن إطار “دولة واحدة ونظامان” يعكس شكلا من أشكال التوافق التام بين لندن وبكين بقدر ما كان حيلة سياسية براغماتية صينية تهدف لاستيعاب هونغ كونغ تدريجيا داخل الدولة الصينية، فبعد كل شيء، كان البريطانيون هم مَن بنوا وحكموا هونغ كونغ لأكثر من 150 عاما، وقاموا بتوريث البلاد مجموعة مختلفة تماما من القيم والبنى السياسية عن تلك التي يتم تبنيها في البر الرئيس الواقع تحت الحكم الشيوعي الصيني، أما من وجهة نظر الغرب فقد كان الأمل دوما هو أن تكون هونغ كونغ هي حصان طروادة لإعادة تشكيل النظام السياسي في الصين ليصبح أكثر توافقا مع النظام العالمي الذي تحكمه الديمقراطية الليبرالية.
كانت بكين أكثر جدية لتنفيذ رؤيتها في دمج هونغ كونغ في المشروع الصيني من الغرب ومشروعه، وشرعت في تنفيذ رؤيتها خلال فترة قصيرة من سيطرتها على البلاد. ففي البداية، حرصت(7) الصين على فرض إطار تقييدي على العملية الديمقراطية في الإقليم عبر قصر انتخاب الرئيس التنفيذي للبلاد على مجمع انتخابي صغير مكوّن من 1200 عضو من كبار السياسيين ورجال الأعمال ورموز المجتمع، وتتمتع الصين بسيطرة كبيرة فيه وهو ما يضمن انتخاب رئيس تنفيذي موالٍ لبكين على الدوام، وفي الوقت نفسه دعمت الصين الحكومة الموالية لها في هونغ كونغ لقمع جميع الاحتجاجات الشعبية على ذلك الإطار السياسي التقييدي وعلى جهود بكين لتقويض استقلال الإقليم كما حدث خلال ثورة المظلات ومظاهرات “احتلوا المركزي” عام 2014 التي طالبت بإجراء انتخابات الرئيس التنفيذي للبلاد عن طريق الاقتراع المباشر.
لم تستخدم بكين القوة وحدها لفرض السيطرة على هونغ كونغ، ولكنها تتبنّى مقاربة كاملة(8) للسيطرة على المجتمع من خلال مكتب الاتصال المرتبط بالحكومة المركزية في البلاد والذي يمتد تأثيره داخل المناطق الإدارية الثمانية عشرة في المدينة، ويمتلك مكاتب داخلية في المجالس المحلية وممثلين في جميع القطاعات يتحكّمون في التعيينات الحكومية ويوزعون الوظائف والمزايا لشراء الولاءات كما يقومون بحشد الدعم الشعبي للمرشحين الموالين لبكين في الانتخابات.
فبخلاف سياستها في سائر المناطق والمقاطعات في البر الرئيس، تدرك الصين أن القمع وحده لن يكون كافيا لإخضاع هونغ كونغ في الوقت الذي لا يزال فيه إطار “دولة واحدة ونظامان” فعّالا، وهو الإطار الذي يضع -رغم كل شيء- قيودا على قدرة بكين على التدخل المباشر في هونغ كونغ مثلا عبر إرسال حاميات عسكرية لقمع الاحتجاجات الشعبية أو التعدي على الولاية القضائية المستقلة في البلاد، ومع إدراكها لعدم قدرتها على تجاوز إطار “دولة واحدة ونظامان”، والذي تُعدّ الصين نفسها المستفيد الأكبر منه في الوقت الراهن، يبقى خيار بكين الرابح الذي جربته في هونغ كونغ دوما هو الرهان على الوقت، مع المزيج من الوعود السياسية والقمع المحدود من أجل تثبيط الاحتجاجات وتشتيتها والحفاظ على الاستقرار في الجزيرة التي تعتبرها الصين رأس الحربة لرعاية مصالحها الإستراتيجية خاصة في المجال الاقتصادي.
رأس الحربة الصينية
منذ قدوم الحكم الشيوعي إلى الصين، اعتبرت بكين هونغ كونغ محورية وحاسمة، ليس فقط لمصالح البلاد الاقتصادية، ولكن لبقاء الحكم الشيوعي نفسه رغم وقوع البلاد تحت السيطرة البريطانية في ذلك التوقيت بمباركة صينية على ما يبدو. ففي عام 1949، وقبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية، رفض “ماو تسي تونغ” دعوات استعادة هونغ كونغ إلى السيادة الصينية وفضّل تركها للبريطانيين، في خطوة استُخدمت لاحقا للدلالة على حكمة ماو ورؤيته طويلة الأجل، فمن خلال الإبقاء على هونغ كونغ كولاية قضائية مستقلة تحت سلطة البريطانيين، نجحت الصين في التغلب على الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة عليها منذ عام 1949، ولاحقا خلال فترة الحرب الباردة عملت هونغ كونع كأكبر مصدر للنقد الأجنبي للصين -بحصة مقدارها الثلث تقريبا-، وكانت هي المنفذ الوحيد لتهريب التكنولوجيا والمعدات والأدوية الغربية إلى الصين وكذا تصدير المنتجات الغذائية الصينية إلى الخارج، كما عملت كقاعدة نشاط للعمليات التجارية للشركات الصينية ومركز استخباراتي للعملاء الصينيين.
لفترة طويلة لاحقة، لعبت(9) هونغ كونغ دور الجسر الاقتصادي بين الصين والعالم ونقلت التجارة والتدفقات الاستثمارية في كلا الاتجاهين، غير أن الوزن النسبي لمساهمة البلاد في الاقتصاد الصيني بدأ يتضاءل في السنوات الأخيرة مع قرار الصين بفتح حدودها والاندماج نسبيا مع الاقتصاد العالمي، حيث تقلّص إجمالي إسهام هونغ كونغ في الناتج المحلي الإجمالي للصين من نحو الخُمس (17%) عام 1997 مع عودة السيطرة الصينية على البلاد إلى نحو 3% فقط في الوقت الراهن بفضل النمو المطّرد للبلاد والزيادة الملحوظة في الدخول، مع وجود أكثر من 200 مدينة مليونية تتنافس على الإسهام بحصص معتبرة في ناتج البلاد الإجمالي.
تمتّعت هونغ كونغ تاريخيا ببيئة استثمار مستقرة تحميها قوانين شفافة ومحاكم عادلة ما جعلها دوما أكثر جاذبية للمستثمرين من بر الصين الرئيس
رويترز
لكن التركيز على حجم الإسهام الإجمالي في الاقتصاد يُعدّ نظرة تبسيطية للغاية، إذ تُغفل الدور المحوري الذي تلعبه هونغ كونغ كبوابة للاقتصاد الصيني خاصة في المجال المالي، وتُعدّ المفارقة هنا أنه كلما أصبحت الصين أكثر استبدادا في الداخل صارت أكثر حاجة إلى هونغ كونغ كبوابة تجارية، حيث تتمتع البلاد بوضع خاص في القوانين واللوائح الدولية ومزايا مالية وائتمانية تتيح لها الوصول السلس إلى الأسواق الغربية، وتشمل هذه المزايا التصنيف الائتماني المرتفع الذي يعني مخاطر أقل للاستثمارات وقدرة أكبر على جذب تدفقات النقد الأجنبي، والعضوية المستقلة في منظمة التجارة العالمية، فضلا عن استضافتها لأحد أهم الأسواق المالية في العالم وهي بورصة هونغ كونغ المعترف بها كبورصة متقدمة من قِبل أهم المؤسسات المالية العالمية.
بخلاف ذلك، تمتّعت(10) هونغ كونغ تاريخيا ببيئة استثمار مستقرة تحميها قوانين شفافة ومحاكم عادلة ما جعلها دوما أكثر جاذبية للمستثمرين من بر الصين الرئيس، وهو ما دفع الصين للاعتماد على الجزيرة كأرض لاختبار أهم إصلاحاتها المالية، وليس أدل على ذلك من أن طريق دخول اليوان إلى سلة العملات العالمية بدأ من هونغ كونغ عام 2009 حين تم استخدام البورصة المتقدمة في الإقليم لطرح ديون حكومية مقوّمة باليوان للمستثمرين الأجانب.
لا تقتصر الفوائد التي يقدمها الإقليم على هذا الحد، حيث لا تزال هونغ كونغ المصدر الرئيس للاستثمار الأجنبي المباشر في الصين بنسبة تصل إلى ما بين 60 إلى 70% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد الذي يُقدَّر حجمه الإجمالي بتريليونَيْ دولار، وهي أيضا مكان رئيس لإدراج الشركات الصينية (11). على سبيل المثال، بين عامي 2012 و2014، جمعت الشركات الصينية 43 مليار دولار من الاكتتابات الأولية في بورصة هونغ كونغ مقابل 25 مليار دولار جمعتها من بورصات البر الرئيس، كما تُعدّ هونغ كونغ أيضا مصدرا مهما للقروض المصرفية للصين، ففي عام 2018 بلغ صافي الديون المستحقة لبنوك هونغ كونغ على البنوك والشركات والعملاء في بر الصين الرئيس نحو 93 مليار دولار أميركي.
كانت هونغ كونغ بالنسبة للصين ببساطة مدينة مرتبطة ببر الصين الرئيسي وتخضع في النهاية لسيطرة الحزب الشيوعي لكنها في الوقت نفسه متكاملة بشكل تام مع الاقتصاد العالمي
رويترز
بدورها تستخدم الشركات الصينية وعلى رأسها شركات التكنولوجيا مثل تنسنت وشاومي وزد تي سي، وشركات التجارة الإلكترونية مثل علي بابا، تستخدم هونغ كونع كبوابة لنقل أموالها وأنشطتها التجارية خارج حدود الصين، حيث شهد عام 2017 تدفق قرابة 179 مليار دولار من أصول واستثمارات الشركات الصينية عبر هونغ كونغ، وكانت هذه الشركات حريصة على الاستفادة من الوضع المالي والقانوني الفريد في الإقليم لتوسيع أنشطتها في الخارج بمباركة الحكومة التي سعت لتوظيف هذه العمليات التجارية كرأس حربة للنفوذ الصيني الخارجي.
باختصار شديد، كانت الصين هي المستفيد الأكبر من الوضع الفريد لهونغ كونغ ومن إطار “دولة واحدة ونظامان” رغم انتقاد الصقور الصينيين له مرارا وتكرارا، حيث كانت هونغ كونغ بالنسبة للصين ببساطة مدينة مرتبطة ببر الصين الرئيسي وتخضع في النهاية لسيطرة الحزب الشيوعي لكنها في الوقت نفسه متكاملة بشكل تام مع الاقتصاد العالمي ولا تخضع للقيود الغربية المفروضة على المعاملات مع الصين، مما يسمح للصين باستخدامها للتحايل على الضوابط والقيود الأميركية وحتى العقوبات كما فعلت سابقا حين قامت بشراء أقمار صناعية أميركية الصنع عن طريق شركة مسجلة في هونغ كونغ باسم “آسيا ساتلايت” للاتصالات، وكما حدث عام 2017 حين قامت بكين بتهريب النفط إلى سفينة كورية شمالية باستخدام سفينة مسجلة في هونغ كونغ باسم “لايت هاوس وينمور”، فضلا عن استخدام المسؤولين الصينيين لجوازات السفر الصادرة عن منطقة هونغ كونغ الإدارية لتسهيل تحركاتهم في الغرب.
مصالح العم سام
لا تقتصر المصالح التجارية والمالية في هونغ كونغ على الصين وحدها فيما يبدو، فبحكم عمل الإقليم كمركز مالي عالمي فإنه يستضيف المقرات الإقليمية لقرابة 1500 شركة متعددة الجنسيات، بما في ذلك أكثر من 700 شركة أميركية، ورغم أن شركات التكنولوجيا الأميركية الأكبر مثل أمازون وغوغل وفيسبوك اختارت فتح مقراتها الإقليمية في سنغافورة المجاورة، فإن حجم الشركات ورؤوس الأموال الغربية العاملة في هونغ كونغ يجعل الاحتجاجات في الإقليم أكبر بكثير من إضرابات محلية.
في الحقيقة، فإن دوافع الاهتمام الغربي -والأميركي على وجه الخصوص- بهونغ كونغ الصغيرة التي تبلغ مساحتها بالكاد 1100 كم تتجاوز المصالح الاقتصادية البحتة إلى الاهتمامات الجيوسياسية الأكثر شمولا. وتعود بدايات الوجود الأميركي في هونغ كونغ إلى عام 1843 حين افتتحت واشنطن أول قنصلية لها في الإقليم، وللمفارقة فإن واشنطن ظلّت لفترة طويلة أكبر المؤيدين لإعادة هونغ كونغ للسيادة الصينية حتى قيام الثورة الحمراء عام 1949 حين بدأت الولايات المتحدة تدرك الموقع الحيوي للإقليم على “ستارة الخيزران” الفاصلة بين الحكومات الشيوعية والعالم الحر.
صارت مصالح الولايات المتحدة في هونغ كونغ أكثر وضوحا مع قيام الحرب الباردة التي أجبرت واشنطن أن تضع على رأس أولوياتها إبقاء هونغ كونغ موطئ قدم إستراتيجيا للغرب على بوابة الصين الشيوعية، ومن أجل فعل ذلك اتبعت واشنطن إستراتيجية(12) ذات شقين: فمن ناحية قدمت الدعم لحكومة هونغ كونغ البريطانية لتحسين قدراتها الدفاعية لردع أي هجوم صيني محتمل جنبا إلى جنب مع الاستثمار في تحسين وضع البلاد الاقتصادي، ومن ناحية أخرى كانت واشنطن حريصة على الاستفادة من وضع هونغ كونغ الفريد لمتابعة أهدافها الإستراتيجية وفي مقدمتها إنشاء أكبر فرع استخباراتي أميركي خارج الحدود داخل القنصلية الأميركية في الإقليم والتي استضافت ملحقين كاملين لجهازي سي آي إيه وإف بي آي، جرى من خلالهما إدارة عمليات الدعاية والتجسس المناهضة للسوفييت في شرق وجنوب آسيا.
لاحقا، تم إضفاء الطابع المؤسسي على المصالح الجيوسياسية الواسعة للولايات المتحدة في هونغ كونغ بموجب قانون سياسة هونغ كونغ لعام 1992، حيث اعترف القانون بالإقليم ككيان غير سيادي متمايز عن الصين بموجب القوانين الأميركية بما يعني تمتع الإقليم بمعاملة تفضيلية من حيث التجارة والاستثمار والهجرة والنقل والاتفاقيات الدولية، كما يشير القانون إلى تعهد واشنطن بدعم إرساء الديمقراطية في الإقليم ويفوض القانون وزارة الخارجية الأميركية بمراقبة حالة الحكم الذاتي لهونغ كونغ عن كثب، مع تخويل الرئيس الأميركي بتعليق “جزء أو كل” المعاملة التفضيلية لهونغ كونغ حال اتخذت الصين إجراءات قوّضت استقلال وسيادة الإقليم.
ورغم ذلك، أصبح الانطباع السائد(13) في حقبة ما بعد الحرب الباردة هو أن قيمة هونغ كونع للولايات المتحدة أصبحت اقتصادية في المقام الأول، بعد أن أصبحت الشريك التجاري التاسع عشر لها والمُساهم الأكبر في الفائض التجاري الأميركي بقيمة تجاوزت 31 مليار دولار في العام الماضي 2018، ومع استضافتها لأكبر عدد من مقرات الشركات الأميركية في آسيا بواقع 290 مقر قيادة إقليميا و434 مكتبا إقليميا وفق إحصاءات العام نفسه، ومع ذلك فإن النظر الدقيق في التفاصيل السياسية يكشف أن هونغ كونغ لا تزال تلعب دورا كبيرا في تعزيز المصالح الإستراتيجية الأميركية بشكل يتجاوز بوضوح الشق الاقتصادي.
فنظرا لموقع هونغ كونغ الإستراتيجي، تقوم القنصلية العامة للولايات المتحدة في الإقليم بإبلاغ تقاريرها مباشرة إلى وزارة الخارجية البريطانية وليس إلى السفارة الأميركية في بكين، ولا تزال البحرية الأميركية تقوم باتصالات منتظمة مع ميناء هونغ كونغ لتحديد مسارات نشر السفن الأميركية، فيما توجد الطائرات العسكرية الأميركية في مطار الإقليم بشكل منتظم، ولا يزال العديد من السياسيين الأميركيين يحملون النظرة القديمة ذاتها إلى هونغ كونغ بوصفها حصان طروادة الذي يمكن من خلاله تغيير الصين ودمجها في النظام العالمي -وهي نظرة تعود إلى عصور السبعينيات إبان حكم ريتشارد نيكسون وزيارته التاريخية إلى الصين وتجددت في عهود كارتر وكلينتون وأوباما- وهو ما يجعل احتجاجات هونغ كونغ الأخيرة المستمرة حتى الآن وجهود الصين لتقويض استقلال الإقليم تحظى بمتابعة كبيرة في أروقة السياسة الأميركية، ليس فقط من قِبل إدارة ترامب؛ ولكن أيضا من قِبل نواب الكونغرس الذين حذّر بعضهم من أنّ تدخّل الصين في هونغ كونغ سيكون بمنزلة انفصال كلي لها عن العالم الحر ورِدّة إلى “السنوات المظلمة” لحكم ماوتسي تونغ، في أجواء تبدو أشبه ما يكون بحرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين التي يراها الصقور الأميركيون اليوم المعقل الأخير للشيوعية التي انهزمت على أرضها مع انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات.
جدار هونغ كونغ العظيم
يكمن الدرس الرئيس الذي يمكن استخلاصه من التاريخ الجيوسياسي لهونغ كونغ في أن الإقليم كان حاضرا دائما في قلب الصراعات بين الولايات المتحدة والصين منذ الحرب الباردة، ففي حين استخدمت الولايات المتحدة هونغ كونغ كمعبر لاحتواء انتشار المد الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي وحلفائه، قاومت بكين سياسة الاحتواء الأميركية وقامت بتوظيف الإقليم كطريق للتحايل على الحصار الغربي، ولاحقا حين سعت أميركا لاستخدام هونغ كونغ كبوابة لتمرير سياسات التحرر والليبرالية إلى الصين؛ تبنّت بكين مقاربة دفاعية ومنعت الأفكار الغربية من التسلل عبر الإقليم إلى بر الصين الرئيسي، وبدلا من ذلك فإنها كثّفت جهودها لإعادة استيعاب هونغ كونغ إلى منظومة القيم السياسية والاجتماعية الصينية.
وبعد مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة فشلت في تطبيق خطة تحرير الصين سلميا، وبدلا من ذلك برزت بكين بوصفها القوى العظمى المنافسة لأميركا في ظل نموذج جديد من الرأسمالية الاستبدادية، وحوّلت هونغ كونغ إلى حصان طروادة الخاص بها، حيث استفادت من الامتيازات الغربية الممنوحة للإقليم، وفي الوقت نفسه فإنها تُكثّف جهودها لاستيعابه بشكل كلي وتمهّد الطريق ربما لإلغاء الحكم الذاتي لهونغ كونغ بشكل كلي بحلول موعد تجديده في عام 2047.
غير أن بكين، خلال محاولاتها لتدجين هونغ كونغ وتحويلها إلى موقع أحمر صيني جديد، تلتزم بالحفاظ على ذلك الخط الرفيع بين تقويض “المضمون الداخلي” الفعلي لاستقلال هونغ كونغ وبين الحفاظ على استقلالها الخارجي، بعبارة أخرى، تسعى الصين، بأكبر قدر ممكن من النعومة وأقل قدر ممكن من القوة الخشنة، إلى تقويض استقلالية هونغ كونغ لكن دون المخاطرة بتدمير إطار “دولة واحدة ونظامان” الذي تستفيد بكين منه بالشكل الأمثل في الوقت الراهن.
يعني ذلك أن التدخل الخشن لجيش التحرير الشعبي الصيني لقمع الاحتجاجات بشكل مباشر لا يُعدّ خيارا مُفضّلا لبكين رغم تلويحها باستخدامه ضمنيا سواء من خلال تصريحات بعض المسؤولين الصينيين أو من خلال الأشرطة الدعائية التي تم بثها مؤخرا وأظهرت تدريبات لوحدات الجيش على فض التظاهرات ومواجهة أعمال الشغب في رسالة مبطنة لمتظاهري هونغ كونغ، حيث تدرك(14) بكين جيدا أن التدخل بعنف عبر إرسال قواتها سيكون خطيرا، ومن شأنه أن يقوض مناخ الأعمال في هونغ كونغ، فضلا عن إثارته المزيد من الغضب بين مواطني الإقليم تجاه الصين -وهو الغضب الذي يُعدّ في أعلى مستوياته بالفعل- ما قد يخاطر بتقويض إطار “دولة واحدة ونظامان” بشكل فعلي.
ففيما يتعلق بكسب عقول وقلوب أهالي هونغ كونغ، تواجه بكين بالفعل وضعا شاقا(15)، وقد كشف استطلاع للرأي أجرته جامعة هونغ كونغ في مايو/أيار المنصرم أن 27% من سكان الإقليم فقط كانوا راضين عن قيادة المدينة الموالية للصين، فيما انخفضت نسبة أولئك الذين يعتزون بانتمائهم للصين في البلاد إلى 27% مقارنة بـ 38% في العام السابق، وفي المقابل زاد اعتزاز المواطنين بانتمائهم إلى هونغ كونغ، وتُعدّ نسب التأييد الشعبي المتردية للصين أحد الأسباب(16) الأساسية لتردد القيادة الصينية في استخدام القمع المباشر وتفضيلها الاعتماد على دعم الحكومة المحلية بدلا من ذلك.
وفي هذا الصدد، تمتلك الصين بالفعل العديد من البدائل الناجعة لوأد الاحتجاجات وعلى رأسها جهاز الشرطة الذي لم يكتفِ باستخدام تكتيكات القمع المعروفة بما يشمل تقنيات فض المظاهرات والتوسع في الاعتقالات -تم اعتقال الجرحى من المستشفيات- لوأد التظاهرات، لكن جهاز الشرطة في البلاد واقع بالفعل في قلب اتهامات خطيرة بالتواطؤ مع عصابات الثالوث الشهيرة التي تُدير الجريمة المنظمة في الإقليم، حيث تم رصد اعتداءات ناشطي العصابات على المتظاهرين والمواطنين في الش4وارع في غياب كامل للشرطة التي لم تظهر إلا بعد اختفاء العصابات.
لكن ذلك كله لا يعني أن خيار التدخل المباشر للجيش الصيني في هونغ كونغ لقمع المظاهرات بشكل كلي -أو ما يُطلق عليه في الغرب “خيار تيانانمن” نسبة إلى التظاهرات الشهيرة التي قمعتها الحكومة الصينية بقسوة أواخر الثمانينيات- لا يعني أن ذلك الخيار على صعوبته يبقى مستبعدا بشكل كلي، فبعد كل شيء يمكن أن تستنتج الصين في مرحلة من المراحل أن مخاطر تطلعات الديمقراطيين في هونغ كونغ للمزيد من الحكم الذاتي على استقرار النظام الصيني تفوق الفوائد الاقتصادية التي تُحصّلها بكين من الاستقلال الاسمي للإقليم، خاصة إذا ألهمت احتجاجات هونغ كونغ تحركات مماثلة في بر الصين الرئيس وهددت سيطرة الحكومة المركزية على الحكومات الإقليمية، وهو ما قد يدفع الصين في النهاية إلى استخدام الحامية العسكرية المتمركزة في هونغ كونغ، والتي يُقدّر عددها بـ 6000 جندي، لوأد الاحتجاجات بشكل كامل حال فشلت التكتيكات الأخرى في تفريغ الحشود أو احتواء غضب المتظاهرين.
في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة أيضا خياراتها الخاصة للرد على التحركات الإقليمية الصينية، رغم أن إدارة “ترامب” يبدو أنها تُفضل التعامل مع هونغ كونغ كمسألة صينية خاصة لمنع إثارة المزيد من المشاحنات مع بكين. ففي البداية يمكن للولايات المتحدة الاكتفاء بتهديد لفظيّ مفاده أن أي تآكل لاستقلال هونغ كونغ سوف يُردّ عليه بخصم من الامتيازات الممنوحة بالإقليم بموجب قانون سياسة هونغ كونغ الأميركي، ويُعدّ هذا النهج مرجحا بالنظر إلى اعتراف الولايات المتحدة الواضح بسيادة الصين على هونغ كونغ، لكن المشكلة الرئيسية أن تحذيرات الولايات المتحدة المتتالية لم تمنع الصين من متابعة سياساتها الخاصة في الإقليم، مع يقينها أن تحذيرات الولايات المتحدة لن تكون متبوعة بإجراءات فعلية كما جربت إبان تظاهرات ثورة المظلات في عام 2014.
يمكن للولايات المتحدة أيضا أن تختار التصعيد بشكل فعلي عبر إلغاء بعض الامتيازات الممنوحة بموجب قانون هونغ كونغ عبر قرارات رئاسية أو ربما إلغاء القانون بشكل كُليّ كما يلوّح بعض نواب الكونغرس، ويعني هذا الخيار أن أميركا ستستخدم “ورقتها النووية” وتتنازل عن نفوذها في هونغ كونغ بشكل كامل وستُخاطر بتقويض مكانة الإقليم كمركز مالي وتجاري وجُمركي، ورغم أن هذا الإجراء سوف يضر الصين اقتصاديا بشكل واضح فإنه سيضر سكان هونغ كونغ أنفسهم في المقام الأول، كما أنه سيضر الولايات المتحدة نفسها أيضا بالنظر إلى مخاطر قيام هونغ كونغ بفرض تعريفات مقابلة على البضائع الأميركية، والأهم من ذلك أنه حال اتخذت الولايات المتحدة هذه الخطوة فستكتشف بكين أنها ليس لديها ما تخسره إذا قامت بتصعيد إجراءاتها القمعية في الإقليم أو حتى أقدمت على إلغاء إطار “دولة واحدة ونظامان” بشكل كلي.
يبقى الخيار الأخير للولايات المتحدة هو فرض عقوبات مُوجَّهة تستهدف الأفراد والكيانات المتورطة في انتهاك الاستقلال الذاتي لهونغ كونغ سواء من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني أو من البيروقراطيين وأعضاء الحكومة في هونغ كونغ، ويمكن لهذا الخيار أن يرفع من تكلفة أي إجراءات صينية لتقويض الحكم الذاتي في الإقليم، لكن من المؤكد أن الصين سترد على هذا الخيار أيضا من خلال فرض عقوبات مضادة، بما يعني أن -وفي كل الأحوال على ما يبدو- هونغ كونغ سوف تستمر في لعب الدور نفسه الذي لعبته برلين الغربية خلال الحرب الباردة، وسوف تظل ملعبا لصراع مفتوح بين الولايات المتحدة والصين، غير أن واشنطن لا تمتلك اليوم ما يكفي من الأوراق لتحقيق مثل ذلك النصر الأسطوري الذي حققته حين سقط جدار برلين العظيم وتهاوى معه الاتحاد السوفيتي تاركا الولايات المتحدة قوة وحيدة ومهيمنة على العالم.
الجزيرة