تصدّرت روسيا قيادة المعارك في شمال حماة وريف إدلب الجنوبي في الشهر الأخير، وحققت تقدّماً مهولاً فيهما، وبالتالي أصبحت سيطرتها ليست جوية فحسب. جوياً، أصبحت السماء السورية محتكرةً لصالح روسيا منذ سنوات، فالطيران السوري، مدني وعسكري، يُحلق في أجواء بلده، بإشراف روسي كامل! قبل الشهر أغسطس/آب الماضي، أشرك النظام كل وحداته العسكرية، الأصلية والمليشيات، بتلك المعارك، وجميعها فشلت وقُتلت نخبتها، وبالتالي نجاح روسيا أخيرا واستعادة تلك المناطق، يعطيانها الدور المركزي في تقرير مصير النظام، الآن ولاحقاً.
تسيطر روسيا على النظام، وهناك اتفاقيات متعدّدة تشمل، إضافة إلى الجانب العسكري، الاقتصاد والتعليم والثقافة والسياحة؛ وعدا عن دورها في تمثيل النظام عالمياً، وضد الشعب السوري ومنذ 2011، أعادت تشكيل جيش النظام، وأنشأت قطعاتٍ عسكرية تحت إشرافها، ولكنها تابعة شكلياً للنظام، واستطاعت عبر المصالحات إعادة أجزاء من الفصائل التي تقاتل النظام، ودفعت بها إلى الجبهات الأمامية. يقدّر عدد من تسيطر عليهم روسيا قرابة 12 ألف عسكري سوري؛ وتتضمن التقارير المتتابعة يومياً تدخلات في هيكلية قيادة الجيش والأمن. وتظهر سيطرتها على الجيش من خلال وجودها الميداني في أغلبية المدن السورية، ولو أضفنا إنشاءها مطارات متعدّدة وسيطرتها على مطارات قديمة للنظام، وعلى البحر كذلك، لأصبحت (جدلية) الحرية والتحرّر مترابطتين في سورية؛ فلم يعد السوريون أمام مهمة إنجاز الحرية من أدوات الخارج المحلية، وكائناً من كانوا، موالين أم معارضين، بل أصبحوا أمام مطلب التحرّر أيضاً.
هل يحتمل زمننا هذا كلاماً عن تحرّرٍ وطني من أصله؟ وهل في مقدور السوريين، وقد
“روسيا قد تشن حرب إبادة على إدلب، كما فعلت في الغوطة ودرعا وشمال حماة”أصبحوا مطاردين في كل دنيا الله، وليس في سورية فقط، هل يمكن أن يفكروا بالتحرّر والحرية مجدّداً؟ تجاوزت تعقيدات الوضع السوري النظام والمعارضة، ومشكلة الطرفين أنهما لا يعترفان بأن الوضع الداخلي وسيطرة الخارج عليهما أصبحا كارثيين؛ فجماعة تركيا وجماعة أميركا وكذلك جماعة إيران وروسيا، ولولا بقايا خجل، لأعلنت جماعة إسرائيل عن نفسها. تخوض الجماعات “الوطنية جداً” هذه حروب الآخرين، وعلى أرض سورية وعبر الشباب السوري. ما لا جدال فيه أن النظام الذي يحوز القوة والقدرة هو المسؤول الأول، ولكن أين هي مشاريع السوريين الآخرين بما يتعلق بروسيا وأميركا وتركيا وإيران؟ إنه الخطاب القديم ذاته؛ النظام هو المسؤول، ونحن بالكاد خرجنا من عباءته، ولم نعط فرصة حقيقية بعد. ستجدون في مقالات قادة المعارضة، ودراساتهم ولقاءاتهم، كلاما كثيرا مستهلكا عن مسؤولية النظام، ونقدا قليلا لدورهم، وحتى النقد هذا يتم تمييعه، كي لا تنتج منه مسؤوليات ومتابعات وإحالات إلى القضاء. إذاً، أصبح حال السوريين مأساة حقيقية، وتستفيد روسيا من رداءة النظام والمعارضة معاً، وكذلك من حصار أميركا إيران وضعف الأخيرة، وكذلك من حاجة الرئيس التركي، أردوغان، إليها، حيث يواجه داخلاً سياسياً صعباً، وهناك أوروبا وأميركا الرافضتان دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تتحكم روسيا بتلك الدول، وباستثناء أميركا، وليس بالمعارضة والنظام فقط. ضمن هذه المعطيات، أليس من الأجدر بالفعاليات السورية دراسة كيفية التعاطي من روسيا، وقد أصبحت تحتل سورية؟ أي أن تعترف بأن روسيا أصبحت محتلة، وهذا أقل الإيمان.
اجتمع أردوغان وبوتين في 27 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، والمرجح أنهما اتفقا على تراجع النقاط التركية خارج السيطرة الأخيرة لروسيا على الأرض، وسيتضمن التنفيذ الدقيق لاتفاق سوتشي الموقع في سبتمبر/ أيلول 2018، وفتح الطرق الدولية، وأن إدلب أصبحت محكومةً بهيئة تحرير الشام وبقية القوى الجهادية السورية والعالمية، ولا بد من اجتثاثهم بأسرع وقت. ما تقوله روسيا سيلاقي هوىً أميركيا كذلك. والأتراك الذين أظهروا، غير مرة، أنهم معنيون، بشكل رئيسي، بمحاربة أكراد سورية، وإبعادهم عن الحدود التركية، يعلنون بذلك ضعف دولتهم، حيث تكرّرت المجازر في كل سورية وليس في حماة فقط، وعقدوا الصفقات مع روسيا من أجل تسليم المدن المحرّرة، وبالتالي انحازت تركيا لمصالحها في علاقتها بروسيا.
ستنفذ تركيا ما تطلبه روسيا، لا سيما أنها طامحة إلى علاقة تاريخية بها، إذ إن الدولتين تتعرّضان لحصار أميركي واستهتار أوروبي. وتقول المشتركات التركية إن روسيا هي التي ترسم خطوط نفوذ تركيا، وإن الأخيرة سترضى بما يجود عليها الروس. وتوضح تصريحات أردوغان، قبل ذهابه إلى موسكو، أنهم معنيون أساساً بشمال شرقي سورية، وإرساء منطقة آمنة لإبعاد الأكراد عن حدودهم، وبالتالي يمكن لتركيا أن تقايض روسيا، ليس على إدلب فقط، بل وعلى كل المناطق التي تسيطر عليها (غصن الزيتون، ودرع الفرات وسواها). لاحظ صفقات السلاح الجديدة، التشدّد التركي مع اللاجئين السوريين، وإدخال قواتها السورية (الجبهة الوطنية والجيش الوطني) إلى تخوم المناطق التي احتلها النظام، ويوضح هذا كله أن تركيا لم تشأ مواجهة روسيا في معركتها الأخيرة، وأنها أرسلت قواتها لحماية النقاط العسكرية الروسية هناك، ومنع الفصائل الجهادية من أي تحرّكات جنونية، وقد تكون من أجل معركة قادمة في إدلب، لا محالة.
يكذب الجهاديون، وكانت مشاركاتهم هامشية في المعارك التي امتدت، أخيرا، أربعة أشهر،
“ستجدون في مقالات قادة المعارضة، ودراساتهم ولقاءاتهم، كلاما كثيرا مستهلكا عن مسؤولية النظام، ونقدا قليلا لدورهم”وبالتالي اختزنوا قواهم لمعارك داخل إدلب، ولكن هذه المرّة لن تكون مع “الزنكي، وفصائل صغيرة، وأحرار الشام، وسواها”، بل ستكون معارك بقيادة تركيا، وربما روسيا والنظام، وربما أميركا، في حال استعصت على تركيا؛ إذاً هناك حمام دم جديد في إدلب. ستستقر الأوضاع ريثما تزرع مراكز المراقبة بشكل نهائي، وتفتح الطرقات الرئيسية، وتسير دوريات روسية وتركية مشتركة، وأن يكون هناك تنسيق أكبر بين روسيا وتركيا، وبما يتعلق بداخل إدلب ومنطقة شرقي الفرات.
تكرّر روسيا أنها ستعيد كل المدن إلى سيطرة الدولة السورية، ولن تترك فصيلاً مسلحاً معارضاً خارج تلك السيطرة. إنها تخطط لاحتلالٍ من دون مشكلات مستقبلية؛ دور أميركا وإيران وتركيا وإسرائيل، ومهما ناقشنا تطوراته ومنذ سنوات، فهو لا يعارض الاحتلال الروسي، ويقدّم له المدن بالتتالي. حدوث معارك خفيفة هنا وهناك لا يعمينا عن رؤية تلك الاحتلالات التي كانت واضحةً في رفضها أي معارضة وطنية، أو مقاومة قوية ومستقلة، وجعلت منها تابعة وهامشية بامتياز، وصمتت عن إمدادات روسيا وإيران للنظام وبكل أنواع السلاح والمليشيات. إذاً، من أكبر الأوهام الاعتقاد أن تلك الدول ستعارض روسيا جديّاً، حينما تستقر الجبهات وتُرسَم مناطق النفوذ؛ الأصح أن روسيا قد تشن حرب إبادة على إدلب، كما فعلت في الغوطة ودرعا وشمال حماة، وتركيا لن تعارضها، وكذلك ستطالب بدورٍ في شمال شرقي سورية. أميركا ستجري صفقة معها بالتأكيد، فلنتذكّر مصير درعا مثلاً، وقواعدها العسكرية يمكن تفكيكها بسهولة، وبالتالي تكتمل مراحل احتلال روسيا تباعاً.
روسيا هي التي تحكم سورية، وبعد ذلك كله، ومجدّداً، ماذا سيفعل السوريون، عرباً وكرداً وسواهم، إزاء هذه الكارثة التي حلّت بهم؟
العربي الجديد