لم يكن العدوان الذي شنته إسرائيل على جنوب لبنان في يوليو/ تموز 2006، حرباً على لبنان.. وضَّحت إسرائيل هذا في حينها، وميّزت في هجومها بين لبنان وحزب الله، فوجهت إلى الحزب ولقواعده ضربةً قوية. عوّلت على أن تقوم دولة لبنان بواجب مواجهة حزب الله بنفسها سياسياً، وراهنت جزئياً على أن حاضنة الحزب ستحاول كبح جماحه، بعد أن تتلقى ضرباتٍ مؤثرة. لم تتمكّن الدولة في لبنان من مواجهة حزب الله، فتمدّد سياسياً حتى وصل حليفه ميشال عون إلى قصر بعبدا. وصالح الحزب جماهيره بقوة تبرّعات إيران السخية، وقدّم لإسرائيل هدية ثمينة بالسكوت مطولاً، فترة قياسيةً، فمرت 13 سنة برداً وسلاماً على الجليل الأعلى، على الرغم من إطلالات أمين عام الحزب، حسن نصر الله، خلالها، في مواسمه المعتادة، وحفاظه على لهجته التهديدية العالية، ولكن دون تحرّك على الأرض. ثم جاءت الحرب السورية لتبقي حزب الله مشغولاً حتى أذنيه، وصارت أولويته الإبقاء على الحليف القريب حاكماً لسورية، إلى أن أرسلت إسرائيل، قبل أيام، طائراتها المسيّرة فوق مقرّات لحزب الله في الضاحية الجنوبية، في حركة اختبارٍ تحمل رسائل محدّدة.
تشبه المناوشة أخيرا بين الحزب وإسرائيل الحالة بين إيران وأميركا، تحرّشات وفرقعات متفرّقة، تقابلها ردود شكلية، فيما لم تختفِ الدبلوماسية لحظة واحدة، فجاء رد أنصار نصر الله كمن يحفظ درسه جيداً، ويعرف أن الهدوء مطلبٌ عام، وليس إسرائيلياً فقط. وعلى الرغم من حدّة ما يقوله نصر الله، في مناسباته الإعلامية، فإن الحزب غير قادر على تغذية حربٍ جديدة على إسرائيل، أو الدخول في اشتباكٍ عسكري، ولو عدة أيام، ذلك لأن الحرب السورية استنزفته بقوة، وقد لا تحيِّد إسرائيل لبنان هذه المرّة، فتكون معاقبة حاضنة الحزب مضاعفة. أما إيران فلم يبق لديها فائضٌ ماليٌّ ترشو به مؤيدي حزب الله في لبنان، وباتت هوامش مناورتها قصيرة الباع، وخلاياها موزّعة هنا وهناك في الإقليم، وقد أتعبها الحصار الاقتصادي المفروض عليها. وقد تابعنا أزمة سفينتها التي أوقِفَت في جبل طارق، والتوتر الذي صاحب هذه الأزمة في الخليج، وهي سفينة تبيَّن أنها تحمل وقوداً فقط، كما ساهمت الهجمات القوية التي شنتها إسرائيل على تجمعات ومخازن أسلحة لإيران وحزب الله في سورية، في السنوات الأخيرة، في تقليص قدرات الحزب، وامتدت نيران الهجمات إلى العراق، فأصابت مراكز قوات الحشد الشعبي، وهي العمق الاستراتيجي لحزب الله.
الاستراتيجية التي يتبنّاها حزب الله مقابل إسرائيل هي الصواريخ التي يملك كثيرا منها، كما يرد دائماً على لسان نصر الله، وهو اعترافٌ منه يحمل صيغة التهديد ومحاولة لإظهار وجهه القوي. وبحسب الوزير الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، فإن حزب الله يمتلك حوالي 140 ألف صاروخ، بين متوسط وبعيد المدى، يمكن أن تغطّي هذه الصواريخ مساحاتٍ واسعةً من إسرائيل، معظمها تجمعات سكنية عادية، وهي إن أُطلقت على دفعات، بمعدل ألف صاروخ يومياً، فيمكن للحرب أن تستمر أشهرا متواصلة. هذا سيناريو تتبنّاه إسرائيل، ليس بشكل فعلي، ولكن لتسويق مدى الخطر الذي تعيش فيه، ولكن الحقيقة أن حزب الله طوال حرب تموز 2006، التي استمرت 34 يوماً، لم يتمكّن من إطلاق سوى أربعة آلاف صاروخ. ومن المشكوك به أن لدى حزب الله هذا الكم الكبير من الصواريخ، مع صمته خلال السنوات الماضية عن الهجمات والاستهدافات الإسرائيلية التي استنزفت قواه. ولكن يبدو الإعلان عن وجود هذا الرقم من الصواريخ مفيداً لطرفي المعادلة، فحزب الله يحوز دعايةً لنفسه في وسطه الذي يحتاج هذا النوع من المخدّرات، وإسرائيل ترغب بتسويق صورة أنها تعيش وسط تجمعات إرهابية خطرة، ولذلك قد لا يكون للحرب مكانٌ على حساب سريان الحالة الراهنة إلى ما لا نهاية.
العربي الجديد