تصدّرت الأوضاع المأساوية في منطقة الشمال الغربي من سوريا (ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي تحديداً) في الآونة الأخيرة تقارير وكالات الأنباء، ونشرات الأخبار الدولية والإقليمية. وتم تسليط الأضواء بصورة نسبية على معاناة المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء؛ وذلك من خلال عرض صور القتل والتدمير نتيجة القصف الجوي الوحشي من طرف الروس والنظام، فضلاً عن التدخل البرّي الروسي إلى جانب قوات النظام وميليشيات حزب الله.
ما جرى، ويجري، في هذه المنطقة، خاصة في محيط إدلب، حتى الآن لا يمثّل تطوراً غير متوقع في مسار أحداث الحرب المفتوحة على السوريين الذين ثاروا على سلطة الاستبداد والفساد؛ هؤلاء الذين اعتقدوا أن العالم سيتفهّم مطالبهم العادلة، وسيقف إلى جانبهم، أو على الأقل لن يحاربهم. إلا أنهم فوجئوا بتشكّل حلف دولي -إقليمي، ضمّ روسيا والدول القريبة منها، وإيران والميليشيات التابعة لها في كل من العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها من الدول؛ والنظام والميليشيات التابعة له من قبل بعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية التي ما زالت تلتحف بعباءة الأيديولوجية القومية واليسارية، للتغطية على تبعيتها العضوية للنظام السوري. حلف مصمم على الاستمرار في دعم نظام بشار، والإبقاء عليه وبأي ثمن، خاصة بعد أن تيقّن من هلامية و”خلبية” موقف المجموعة الدولية الكبيرة التي أعلنت نفسها مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، وهي المجموعة التي اكتفت بتنظيم مؤتمرات عدة، لم تترجم قراراتها إلى أي دعم حقيقي، كان في مقدوره، لو حصل، حسم الأمور في سوريا لصالح شعبها منذ صيف عام 2012. ولم يكن حينها قد ظهر تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وأخواته، وكانت الثورة في طابعها العام ما زالت سلمية، ولم تكن قد خضعت بعد لهيمنة الفصائل المسلحة المتشددة دينياً.
ولكن يبدو أن المجتمع الدولي كان قد اتخذ قراره منذ البداية بالتعامل مع الوضع السوري بعقلية إدارة الأزمة وليس معالجتها. وهكذا تغيّرت المسارات، وتشابكت المصالح والاهتمامات، وتبدّلت الأولويات، حتى وصلنا إلى يومنا الراهن.
الوضع السوري اليوم هو خارج نطاق إمكانية التأثير من جانب السوريين، كل السوريين، ونعني بذلك النظام والثائرين عليه. هذه حقيقة يعرفها الجميع. فالنظام لا يستطيع أن يطرح، رغم تماسكه الظاهر، مشروع حل وطني سوري معقول مقبول، يكون أساساً لمفاوضات ومناقشات وحوارات قد تؤدي، في حال توفّر الإرادة والرغبة، إلى إرهاصات حل ما. وأسباب عجز النظام عن القيام بأمر كهذا لها علاقة ببنية هذا النظام، ووظيفته، وطبيعة التناحرات الداخلية ضمنه، ومعرفته المسبقة بأن أي مشروع وطني حقيقي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيكه، والإطاحة به.
ولكن إلى جانب الأسباب الداخلية هذه، هناك أسباب خارجية، إقليمية – دولية، لها علاقة مباشرة بتحوّل المسألة السورية إلى ورقة أساسية في لعبة الصراع الإقليمي- الدولي الذي يجري اليوم في سوريا وعليها، خاصة بالنسبة إلى روسيا وإيران. هذا الصراع الذي يتجسّد في تحوّل سوريا عملياً إلى مناطق نفوذ، تتقاسمها كل من روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية. هذا إلى جانب وجود عسكري استخباراتي معلن أو غير معلن من قبل الدول الأوروبية الأخرى، وإسرائيل التي تتصرف بمطلق الصلاحيات، تختار الأهداف التي تشاء لتقصفها متى تشاء، وكيفما تشاء؛ وذلك بالتنسيق مع القوتين الأكبر المتواجدتين بقواتهما البرية والجوية في الداخل السوري، ونعني بهما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ما يخص هيئات المعارضة السورية الرسمية بأسمائها المختلفة، فهناك حالة ارتباك وتبعثر، ولا توجد جهة مؤهلة تمتلك الشرعية والمصداقية الكافية التي تمكّنها من تحمّل المسؤولية، واتخاذ القرارات الصعبة. وهذه الوضعية هي الأخرى نتيجة التدخلات الدولية والإقليمية في ملف المعارضة السورية، وعجز وإخفاق السوريين في مواجهة الضغوط التي كانت من مختلف الجهات، وهي الضغوط التي استهدفت إجراء عمليات التهجين والتدجين والتوليف التي خضعت لها مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، حتى وصلنا إلى الحالة الراهنة التي لا توحي بأي أمل يمكن أن يُبنى عليه.
مقابل هذا الانسداد المستعصي على المستوى السوري الداخلي، لا توجد أي بوادر توحي بتوافق دولي قريب للوصول إلى حل ما، رغم ما أعلن عنه مؤخرا المبعوث الأممي الخاص بسوريا غير بيدرسن الذي تحدث عن إمكانية الوصول إلى حلول بشأن اللجنة الدستورية. ولكن الجميع يعلم، وفي مقدمتهم بيدرسن نفسه، بأن اللجنة المعنية لا تمثل حلاً للمسألة السورية المعقدة بكل جوانبها.
فالمجتمع الدولي المتنصل أصلاً من مسؤولياته، بل المنخرط في الأزمة نفسها، لن يتمكّن من إقناع السوريين عبر تشكيل لجنة لن تقدم أو تؤخر في ظل وجود نظام أمني قمعي، يتبجح بانتصاره على السوريين، والرقص على جثثهم وأطلال مدنهم وبلداتهم.
فالوضع السوري يستوجب تماسك الموقف الدولي، وتدخله بقوة لفرض حل يتم التوافق عليه، ولكن هذا الأمر بات تقريباً من عالم المستحيلات في وقتنا هذا وفي المدى المنظور، وذلك نتيجة المشكلات والاختلافات التي يعاني منها المجتمع الدولي؛ ونقصد بهذا الأخير في المقام الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب الاتحاد الأوروبي.
فالولايات المتحدة منشغلة بانقساماتها، وحملتها الانتخابية. كما أنها في حرب اقتصادية – تكنولوجية مفتوحة، مجهولة المدة والآفاق مع الصين. وعلاقاتها الأوروبية تعاني من اهتزازات كبرى.
هذا في حين أن روسيا من ناحيتها، تعاني من صعوبات اقتصادية، وتصاعد معارضة بينية. وهي، رغم النجاحات التي حققتها على المستوى الدولي بفعل الورقة السورية، عاجزة حتى الآن عن تسويق نفسها كقوة عظمى لها هيبتها واحترامها على مستوى العالم.
أما الدول الأوروبية، فهي الأخرى تعاني من مشكلاتها الداخلية، خاصة من جهة تصاعد التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة، التي تمثل تهديداً حقيقياً للديمقراطيات الغربية المترهّلة، هذه الديمقراطيات التي تحتاج إلى عمليات شد وترشيق وتجديد.
إننا إذا وضعنا في اعتبارنا صعوبة، إن لم نقل استحالة، حدوث اختراق نوعي على طريق الحل على المستويين السوري الداخلي والإقليمي – الدولي، سنجد أنفسنا في مواجهة احتمالين: الأول، يتمثّل في استمرارية وضعية مناطق النفوذ إلى أمد غير معلوم، ربما ينتهي في نهاية المطاف إلى التقسيم، خاصة إذا طالت المرحلة، وتشابكت المصالح، وظهرت قوى محلية متناغمة مع الراغبين في التقسيم، وتهيأ الناس عاطفياً وعقلياً لذلك، نتيجة فقدان الأمل، وطول مدة الانتظار العقيم.
أما الاحتمال الآخر، فهو يعتمد على إرادة السوريين الذين يؤمنون فعلاً بالمشروع الوطني السوري غير الشعاراتي. هؤلاء الذين يرون أن ما يجمع بين السوريين، كل السوريين من دون أي استثناء، هو أكثر بكثير مما يفرّق بينهم، وأن في مقدورهم التعامل مع كل قضاياهم بعقل وقلب مفتوحين من دون أي سعي من جانب أي طرف للهيمنة. وهذا لن يتحقق من دون الاعتراف الحقيقي، وليس المجاملاتي التضليلي، بالآخر المختلف، والتوافق على ضوابط محددة تقر بالخصوصيات، والحقوق المترتبة عليها، بما في ذلك الأشكال والإجراءات الإدارية التي تراعي واقع التنوع السوري، والآثار السلبية التي نجمت عن الحرب التي أعلنها نظام الاستبداد والفساد على السوريين على مدى سنوات طوال، هذا فضلاً عن عقود من الاستبداد الأمني والقمعي الذي أنهك البلاد والعباد، وسطّح الضمائر والعقول.
هذا الاحتمال هو الأفضل للسوريين جميعاً، ولكنه يستوجب الكثير من العمل والصبر والتحمّل. ومهمة كهذه لا يمكن أن تنجزها مجموعة من الأحزاب الضعيفة التقليدية التي تعاني أصلاً من أزماتها المستعصية، بل هي تنتظر الشباب السوري من مختلف المكونات، من أولئك الذين اكتسبوا تجربة أكيدة، واتقنوا اللغات، واطلعوا على ألاعيب ومفاصل السياسات الإقليمية والدولية، ولم يتلوثوا بعد بالمال السياسي بأشكاله المختلفة.
ومن الطبيعي أن يحتاج عمل من هذا القبيل إلى تنظيم فاعل، يمتلك قاعدة شعبية واسعة في الداخل والخارج؛ تنظيم له رؤية وطنية واضحة جريئة، يطمئن كل السوريين، ويدين بحزم اللغة الطائفية والشوفينية البغيضة، كما يدين خطاب الكراهية والحقد، ولا يجامل أصحاب العقلية الثأرية الانتقامية. تنظيم تكون كوادره وقياداته على أتم الاستعداد للتنقّل بين المدن والبلدات والقرى السورية، مدينة مدينة، بلدة بلدة، قرية قرية، من أجل عقد المصالحات المجتمعية، تمهيدا للمصالحة الوطنية الكبرى، مصالحة تقوم على الاعتراف والاعتذار والتسامح وتجاوز ما كان، شرط حفظ الحقوق واحترام المشاعر عبر محاسبة المسؤولين عن كل الذي حصل.
ومن الواضح البين أن هذا الاحتمال في حاجة إلى الكثير من الوقت والجهد، ولكنه يعبر عن ضرورة قصوى، وذلك من أجل الوصول إلى سوريا القادرة على احتضان ورعاية وطمأنة كل ابنائها وبناتها من دون اي تمييز أو استثناء.
أما المشاريع البهلوانية، سواء الشخصية أم الشللية، فقد أثبتت في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من محك، فشلها وإخفاقها، بل أسهمت في إجهاض بوادر المشروع الوطني السوري قبل تبلورها، ونضوجها، وتحولها إلى قوة مادية متجسدة في حامل اجتماعي يشمل كل السوريين.
القدس العربي