يتابعُ العالم كل أربع سنوات الانتخابات الرئاسيَّة الأميركيَّة باهتمامٍ شديدٍ، نظراً إلى قوة أميركا السياسيَّة والاقتصاديَّة، ونفوذها على الأحداث الدوليَّة والإقليميَّة، بل وأحياناً الشؤون الداخليَّة للدول كذلك، وبما يتجاوز إمكانات أو أثر أي دولة أخرى، كما تشمل هذه المتابعة الأجنبيَّة في كثيرٍ من الأحيان الانتخابات بالكونغرس كل عامين، لما لها من تأثير في التوجه السياسي للرئيس الأميركي وحريَّة حركته.
تستغرق الحملة الانتخابيَّة الرئاسيَّة الأميركيَّة ما يقرب من عامين، ويحكم النتيجة نظامٌ معقدٌ، يحسم بمعادلة مركبة بين الفائز بالعدد الأكبر من أصوات الناخبين، وتوزيع هذه الأصوات على الولايات المختلفة، الذي يترجم إلى أصوات ممثلي الولايات، فيما يُسمى المجمع الانتخابي، الذي وضعه الرواد السياسيون في الولايات المتحدة لضمان انتهاء النتيجة بما يمثل أميركا بأكملها، وليس فقط المجتمعات السكانيَّة الكثيفة، وليترك القرار الفاصل لممثلي المجتمع في المجمع الانتخابي. المفترض أنهم الأكثر حكمة وخبرة في بداية إقامة الدولة الأميركيَّة، وخشية تأثر الناخبين بظروف طارئة وتيارات شعبويَّة، وقد كان المجمع الانتخابي بالفعل هو من رجَّح كفة ترمب على كلينتون في الانتخابات الرئاسيَّة الأخيرة، رغم تفوق المرشحة الديموقراطيَّة بنحو 3 ملايين صوت بين الناخبين.
مخاطر انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط
وسيطر على هذه الساحة السياسيَّة الأميركيَّة منذ زمن بعيد حزبان أساسيان، هما الجمهوري والديموقراطي، وحظيا على الدوام بالأغلبيَّة في الكونغرس، أو منصب الرئيس، نظراً إلى التحديات التنظيميَّة العديدة والموارد الضخمة المطلوبة من كوادر أو شبكات الاتصالات السياسية، أو موارد ماديَّة من أجل المنافسة الانتخابيَّة الجادة، ويصعب ذلك ويحد من فرص المرشحين المستقلين، حتى المقتدرين منهم مثل روس بيرو البليونير الذي نافس بيل كلينتون وجورج بوش الأب، وعُرِفَ عن الحزب الجمهوري أنه الأشد تمسكاً باقتصادات السوق والحد من التدخل الحكومي، في حين اعتُبر أن الحزب الديموقراطي هو الأكثر التزاماً بقيام الحكومة بتوفير خدمات اجتماعية، وهي مواقف وتوجهات التزم بها مرشحو الحزبين بصفة عامة عبر التاريخ.
ومن الطبيعي أن تتأثر توجهات الناخبين خلال الانتخابات، وأن تتأرجح الأغلبيَّة حسب الظروف المصاحبة للعمليَّة الانتخابية. كانت مشاركة الولايات المتحدة في حروب مثل حرب فيتنام، أو وجود توترات وطنيَّة مجتمعيَّة في الولايات المتحدة مثل مرحلة التصدي للعنصريَّة في الستينيات، أو الأوضاع الاقتصاديَّة الصعبة، التي رجحت النتيجة لصالح بيل كلينتون على حساب الرئيس جورج بوش الأب الذي فشل في الفوز بولاية ثانية، رغم نجاحه في قيادة تحالف تحرير الكويت.
إنما من الخطأ إغفال العامل الشخصي وجاذبيَّة المرشح في العمليَّة الانتخابية، وهو عامل كان من أهم أسباب فوز جون كينيدي الشاب الجذاب بالرئاسة، وتفوّقه على نائب الرئيس نيكسون الأكثر خبرة، وكذلك في خسارة جون كيري الأعمق فكرياً السباق الرئاسي لصالح جورج بوش الابن الذي كان الأقرب إلى طبيعة وقلوب الطبقة الوسطى الأميركية، كما رغبة المجتمع الأميركي في “التغيير” بعد ولايتي بوش الابن، والجاذبيَّة الشخصيَّة لباراك أوباما من أهم العوامل التي رجحته في الانتخابات، رغم أن منافسه جون ماكين كان عضواً بارزاً في مجلس الشيوخ، ومشهود له بمواقف عسكريَّة بطوليَّة خلال حرب فيتنام.
توجد اعتبارات كثيرة ستدخل في الحساب الفاصل لتحديد المتفوق في سباق الرئاسة الأميركيَّة المقبلة لصالح دونالد ترمب مرة أخرى أو لصالح المرشح من الحزب الديموقراطي. إنما من الواضح أن العامل الشخصي سيدخل في الحساب إلى درجة أكبر من أي فترة سابقة، ونشهد شخصنة شديدة في الحملات الانتخابيَّة للمرشحين حتى على حساب مواقفهم الحزبية، وجعل الحملة والمنافسة ينصبان على شخص وطباع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ذاته أكثر من سياساته أو سياسات منافسيه.
وبات ذلك واضحاً بجلاء في أحاديث ترمب، وهو أول من يشخصن الحملة للترويج لترشيحه، حيث يبرز أنه قيادة غير تقليدية، دون التركيز على سياسات حزبه، ويلوح بشكل متكرر أنه يتعرض لمؤامرة من المؤسسات السياسيَّة الأميركيَّة التقليدية، ولا يتردد في التركيز على الصفات الشخصيَّة السلبيَّة لمنافسيه، وبشكل يتجاوز كثيراً السياسات التي يطرحونها، إذ وصف نائب الرئيس السابق بأنه “كسول وممل”.
من ناحيّة أخرى، لجأ عددٌ كبيرٌ من المرشحين الديموقراطيين في المناظرات الحزبيَّة التي أجريت في أولى مراحل اختيار المرشح الديموقراطي إلى شخصنة هجومهم أيضاً، مشددين على أن ترمب “شخص سيئ، وأخلاقه لا تتسق مع المبادئ العامة التي تحكم الشخصيَّة والرسالة الأميركيَّة”، وكرر عددٌ غير قليلٍ منهم أن الأولويَّة يجب أن تكون على هزيمة ترمب، حتى إذا اضطروا إلى الجنوح عن المواقف التقليديَّة للحزب الديموقراطي، وينتظر أن يستمر الحزب الديموقراطي في شخصنة حملته الانتخابية، وتسليط الأضواء على السلبيات في شخصيَّة الرئيس ترمب، خصوصاً في ظل غياب رسالة حزبيَّة جاذبة للناخبين أو مرشح ديموقراطي مميز وجذاب.
ويستهدف الحزب الديموقراطي في ذلك أكثر الطبقات المنتقدة في تصريحات ترمب والمتأثرة سلبياً من سياساته، وهم الأميركيون من أصل لاتيني، التجمع الأسرع نمواً في القوائم الانتخابيَّة الأعوام الماضية، فضلاً عن الاهتمام بالأميركيين من أصل أفريقي.
أتوقَّع أن يكون العام الانتخابي الرئاسي الأميركي المقبل مشحوناً وملغماً، في منافسة شديدة من كل المرشحين على التجمعات الغاضبة في الساحة الأميركية، والفاصل الحاسم سيكون هل الغضب من المؤسسات الأميركيَّة التقليديَّة هو الغالب على المجتمع الأميركي، بما يرجَّح فوز ترمب، أم أن الغضب من تصرفات ودوافع ترمب الحادة وغير التقليديَّة سيرجح النتيجة لصالح فوز المرشح الديموقراطي؟ رغم أنه لا يمكن إغفال تأثير ارتباط الناخب بحزب من الحزبين، أو بعض السياسات للمرشحين الرئيسيين في المرحلة الأخيرة من الانتخابات.
أتوقع أن نشهد درجة غير مسبوقة من الشخصنة خلال الحملة الانتخابيَّة الرئاسية، ولتكن “الانتخابات”، وللمرة الأولى، عملياً أقرب إلى استفتاء مباشر على مرشح واحد هو دونالد ترمب.
اندبندت العربي