عن الرجل الذي أنقذ الاقتصاد العالمي مرّتين: الآن وقبل 80 عامًا!

عن الرجل الذي أنقذ الاقتصاد العالمي مرّتين: الآن وقبل 80 عامًا!

keynes

عد الحرب العالمية الأولى، وبسبب الدمار الذي حلّ في البنى التحتية لدول كثيرة في أوروبا؛ ازدهرت أسواق المال في أمريكا لتلبيتها حاجة السوق الأوروبية والعالم، لكن الأمر لم يدم طويلًا حتى تحوّل الازدهار المالي إلى ركود تسبب به فائض العرض على الطلب، ثُمّ انقلبت السفينة المالية ليشهد العالم فترة الكساد العظيم بداية من أواخر عشرينات القرن الماضي.

أمر شبيه بهذا تكرر مرّة أخرى في النصف الثاني من العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين. ابتدأ الأمر أيضًا عند أمريكا التي انهار فيها سوق العقار مُسببًا انهيارًا في السوق المالي امتد أثره إلى أنحاء العالم وبخاصة منطقة اليورو التي استقرت فيها. حتى 2009 انخفضت نسبة التجارة العالمية إلى 40% من حجم التجارة السنوي، ما يعد الانخفاض الأكبر تاريخيًّا. ببساطة لم تعد هُناك أموال في حوزة المُقترضين لسد ديونهم للبنوك والمؤسسات التي اقترضوا منها والتي بدورها لم تجد من تستدين منه. وكما حدث في الكساد العظيم، باءت نظرية الأيدي الخفية للأسواق الحرّة بالفشل. لم تعد فرضيات السوق الضابطة لنفسها والمصححة لأحوالها بذاتها، ذات جدوى.

إنّها نسخة شديدة الشبه بما حدث سابقًا. وفي كلتا المرّتين كان هناك نفس الشخص لتدارك الموقف، إما هو بذاته، أو بأفكاره.. شخصٌ يُدعى جون مينارد كينز.

من بوهيمي إلى كبير مفاوضين

في الخامس من يونيو 1883، ولد جون مينراد كينز في مدينة كامبردج بالمملكة المتحدة. وُلد لعائلة تنتمي للبرجوازية البيروقراطية. كان والده أستاذًا جامعيًّا، وله أخت تزوّجت من أرشيبالد فيفيان هيل الحائز على نوبل في الفسيولوجيا.

في سنوات دراسته للاقتصاد بجامعة كامبريدج انضم كينز لجماعة بلومزبري، وهي جماعة من المثقفين والكُتّاب والفنانين، الذين اجتمعوا في بلدة تشارسلتون بمقاطعة ساسكس الإنجليزية، في الفترة ما بين 1907 إلى 1930. وامتازت الجماعة بأفكارها التقدّمية تجاه السلوك الجنسي، والفن، وكذا فيما يخص فلسفة الجمال والاقتصاد وأيضًا السياسة. كانوا متحررين للدرجة التي جعلت البعض يُعرفهم باعتبارهم بوهيميين.

يعتبرون أنفسهم مختلفين جدًّا. ولكن قد يشوبهم تعريف آخر بدلًا عن الاختلاف؛ وهو البوهيمية – فيرجينيا نيكلسون

من هذه المجموعة تفتحت آفاق كينز وطريقة تفكيره في الاقتصاد. ومن هُناك انطلق لنقد علم الاقتصاد الكلاسيكي، وذهب إلى تطويره بنظرياته الخاصة بالنّقد والسياسات الاقتصادية الكُلّية. وبحسب ما يقوله الكاتب الصحافي نيكولاس وابشوت، مؤلف كتاب Keynes Hayek، فإنّ جماعة بلومزبري “سمحت لجون كينز أن يُفكّر خارج الصندوق، والتفكير فيما لا يُمكن تصوّره. وأدّى ذلك لاتساع الفكر لديه، ما سمح له بالقفز من المنحدرات مع ثقة بعدم وجود قاع”.

عقب تخرّجه في الجامعة، انخرط كينز في العمل الوظيفي، الذي أهّله للانتقال إلى الهند. وبحكم تخصصه الاقتصادي، تولّى مهمة التدقيق المالي في الهند (التي كانت خاضعة للاحتلال الإنجليزي) قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن بعض الخلافات دفعته للعودة إلى بلاده والتدريس في الجامعة. ثُم عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى انتقل كينز للعمل في وزارة الخزانة/ المالية البريطانية ليعمل على إعادة هيكلة الصرف داخل الوزارة على أساس الترشيد، وجلب القروض من الولايات المتحدة الأمريكية.

فضلًا عن كارثية الحرب العالمية الأولى من حيث أعداد القتلى التي تصل إلى نحو 40 مليون وأكثر، فإن الأثر الكارثي امتدّ للبنية التحتية للدول التي شاركت في الحرب بفاعلية. أغلب دول أوروبا تحققت فيها الكارثة الاقتصادية، فبريطانيا مثلًا كانت نسبة ديونها إلى إنتاجها وقت أن بدأت الحرب، لا تتجاوز 29%، ثُم بعد انتهاء الحرب قفزت النسبة إلى 240%، هذا وكانت بريطانيا وقتها الإمبراطورية المُحرّكة للاقتصاد العالمي، فبشكل أو بآخر كانت بريطانيا تُسيطر على ربع مساحة العالم. في المُقابل دولٌ أخرى أفلست تمامًا كألمانيا، ومع ذلك عوقبت بالمزيد من الديون التي فرضتها دول الحلفاء، قبل أن تُعفى منها لاحقًا.

بعثة الاستجداء: كينز.. المفاوض سليط اللسان

كانت هُناك جهات في الولايات المُتحدة الأمريكية تعتزم استخدام منح قروض ما بعد الحرب (العالمية الأولى) كفرصة لفرض التصور الأمريكي للنظام الاقتصادي العالمي – جون كينز

رغم قدراته الكلامية والخطابية العالية (لقد كان أستاذًا جامعيًّا) إلا أن كينز ركّز في مفاوضاته مع الأمريكان على وضعهم في مواقف الضّعف مُستخدمًا نفس القدرات. لم يستخدم كينز مهاراته كدبلوماسي، لكنّه استخدمها كمناور يستهدف الوصول إلى محفظة أمريكا للحصول على الأموال بأقل نسبة خسائر خاصة بتبعية الإمبراطورية البريطانية للولايات المتحدة الأمريكية.

كانت المُفاوضات على مراحل، الأولى بدأت بزيارة فريق على رأسه كينز إلى واشنطن، فيما عُرف ببعثة الاستجداء (1917). في السادس من مايو 1917 – وكان وقتها في واشنطن- كتب جون كينز إلى والدته يُخبرها بأنّ عمله هُناك ليس شاقًا، مبشرًا إيّاها بأنّ المفاوضات مع الجانب الأمريكي تسير بشكل جيّد جدًّا. هذه النظرة وطريقة التعامل من طرفه، كانت على نقيض نظرة الأمريكان بل ورفاقه في البعثة، الذين وصفوه بالعدوانية والفظاظة وتسلّط اللسان.

هل أيّد كينز الثورة البلشفية في روسيا؟

نعم، وقد يبدو ذلك غريبًا. ولكنّ ما حدث هو أن كينز كان في واشنطن حين انفجرت بُؤر الثورة الروسية عام 1917. وكان كينز يُتابع بشغف تطورات الأحداث في روسيا. في رسالة بعث بها إلى والدته في 30 مارس 1917، قال كينز إنّ “ما يحدث في روسيا هو النتيجة الوحيدة ذات القيمة للحرب للعالمية الأولى”.

وفي رسالة أخرى بعثها في مايو من نفس العام، أعرب كينز عن استيائه من طبيعة العلاقات التي تتجه بها بريطانيا ناحية روسيا، حيث كانت تدعم النظام القيصري. وصف جون كينز التعامل البريطاني في هذا الصدد بالمتخبط واليائس والمثير للسخرية. ثُم في ديسمبر من نفس العام، أرسل كينز رسالة أخيرة لأمه، لم يخفِ فيها مخاوفه مما قد تؤدي إليه الثورة البلشفية من “إفقار عام”، وإن كان قد أخبرها في البداية بأنّه لا يخشى من “تغيير نظام اجتماعي عرفناه، فعلى أيّ حال، الانتهاء من الأغنياء بدلًا من خدمتهم هو الحقّ”.

العواقب الاقتصادية للسلام!

بعد الحرب العالمية الأولى، نظّمت دول الحلفاء مؤتمر باريس للسلام في 1919. خرج المؤتمر بعدّة نتائج من بينها معاهدة فرساي مع الإمبراطورية الألمانية، حيثُ حُمّلت الأخيرة كامل المسؤولية عما أفضت إليه الحرب، وفُرضت عليها مديونية ضخمة كتعويضات عن الدمار الذي أدت إليه الحرب.

جون كينز الذي كان حاضرًا مؤتمر باريس، خرج منه غاضبًا بشدّة من العقوبات المفروضة على ألمانيا، حتّى أنّه استقال من وظيفته في وزارة الخزانة البريطانية، وعكف على إنتاج كتابه الأوّل “العواقب الاقتصادية للسلام”. في الكتاب عرض كينز – بغضب بيّن- لوجهة نظره بأنّ التحامل على ألمانيا سيكون سببًا في ظهور أسوأ ما نتوقع. لقد اعتبر الاقتصادي البريطاني أنّ العقوبات المفروضة على ألمانيا غباءً أكثر منها غير أخلاقية. وقد أعرب عن تعجبّه بأن تكون تلك العقوبات في إطار السعي نحو السلام مع ألمانيا المنهارة.

ألمانيا اليائسة لن تُحافظ على السلام في أوروبا، وبالتأكيد لن تُساهم في الازدهار (…) نحن كُلّنا في ذلك – جون كينز

كان كينز مُحقًا، وهذا ما أدركه منتقدوه وهؤلاء الذين رأوا فيه مُتعاطفًا مع الألمان بشكل مُبالغ فيه. أدركوا ذلك حين ظهر لهم هتلر وحزبه النازي بعد 14 عامًا من معاهدة فرساي، وحين أصبحت حرب عالمية ثانية على المشارف.

الأب الروحي للاقتصاد المُعاصر.. وعقود من الرخاء والنمو المالي!

كما سبق وذكرنا؛ زيادة العرض على الطلب (وفائض الإنتاج)، أدّت إلى انهيار السوق المالي في أمريكا فيما عُرف بالكساد العظيم. بدأ الأمر في 29 أكتوبر 1929، أو ما عُرف بـ”الثلاثاء الأسود”، حيث طُرح في وول ستريت أكثر من 13 مليون سهمٍ للبيع مرّة واحدة. هذا العرض الضخم لم يجد له في المُقابل طلبًا؛ لتفقد الأسهم قيمتها بانخفاض مهول أدّى إلى تتابع الانهيار بسبب ما يُعرف بـ“الذعر المالي” حيث تهافت المستثمرون على البيع لتوقعهم انخفاضًا حادًا في سعر الأسهم. ويُمكنك أن تتخيل ما وصلت إليه الأمور حين تعلم أنّه في أقل من شهر (22 أكتوبر- 13 نوفمبر) بلغ إجمالي الخسائر في السوق المالية الأمريكية 30 مليار دولار، أي ما يزيد عن الميزانية الفيدرالية آنذاك بعشر مرّات!

كانت الدول قد عمدت إلى سياسات وقائية للخروج من الأزمة، ولكنّها زادت الطين بلّة. على سبيل المثال فرضت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مزيدًا من التعريفات الجمركية، على نحو 20 ألف صنف مستورد. دولٌ أُخرى فرضت زيادات في الضرائب، أو تعريفات تجارية أخرى؛ كلها في النّهاية أدّت لتفاقم الأزمة ومواصلة الانهيار بمعدّل ثابت.

هذا، وكان النظام الاقتصادي العالمي القائم على نظريات آدم سميث، يعتقد بأنّ السوق الحُرة يضبط نفسه بنفسه، ما يعني رفض تدخّل الدولة على مستويي الرقابة والتوجيه، ما يعني بدوره أن صاحب رأس المال حُر في استثمار أمواله بأي كم وفي أي نوع، هذا يستدعي فتح أبواب المنافسة بين أصحاب رؤوس الأموال على إنتاج نوع واحد وإغراق السوق به بشكل يفيض بمقدار كبير على الطلب على هذا النوع، ما يؤدي إلى تكدسه ثُم تلفه وفي النهاية الخسارة التي تجرّ معها إغلاق الاستثمارات فمزيدًا من البطالة.. وهكذا تدور العجلة.

الأفكار التي طرحها كينز في كتابيه “نظرية النقود” (1930) و“النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود” (1936) كانت بمثابة طوق النّجاة للاقتصاد العالمي للخروج من أزمته الطاحنة. طرح كينز نظريته التي تدعم تدخّل الدولة لضبط اقتصاد السوق بالتوجيه والمراقبة. وفي حالات الركود الاقتصادي الكبير كالتي كانت حادثة آنذاك، وتكررت مع أزمة 2008، لا يُترك الأمر للسوق لتحقيق التوازن وإعادة تصحيح أحوالها بنفسها، وإنما تعمل الدولة على الاستثمار وضخ الأموال في السوق، مع خفضها للضرائب، ما يُعطي الحيوية للسوق الخاصة ويؤدي إلى انخفاض مُعدّلات البطالة.

على سبيل المثال في بريطانيا، ورغم الأزمة المالية التي بدأت في 2008، استثمرت الحكومة البريطانية بضخ 2 مليون جنيه إسترليني في إحدى مصانع شركة بيريللي لتصنيع إطارات السيّارات. بهذا حافظت الحكومة على عمالة 750 فردًا، وإنتاج 10 آلاف إطار يومي تغطي السوق المحلية وتُصدّر إلى الخارج. بهذه الطريقة يتحقق التوازن في السوق. فببساطة جزء من مسببات الركود حالة الذعر المالي التي تُؤدي إلى الاكتناز والخوف من الاستمثار أو تدوير رأس المال. وباستثمار الدولة وضخها للمال مع خفض الضرائب والتعريفات؛ تُحافظ على الحد الأدنى من توازن السوق، وتعيد الثّقة للمستثمرين/ الناس.

عندما يكون لدينا استثمار كبير، تزيد ثقة الناس لإنفاق أجورهم، ما يُفيد الاقتصاد المحلّي. الأمر ليس مُرتبطًا فقط بموظفي بيريللي، ولكن بمئات المُورّدين والمُتعاقدين الذين يعتمدون على هذا المصنع، وهم يستفيدون أيضًا بزيادة الإنفاق في بيريللي، ثُم إعادة تدوير المال في الاقتصاد المحلّي – آلان ويلسون، مدير هندسي في بيريللي

نظرية كينز تتلخص في مقولته: “هناك أوقات نحتاج فيها إلى التدخل لجعل الرأسمالية تعمل لصالحنا” وذلك بإنفاق المال في السوق، وإن عنى ذلك الاستدانة لتحقيق معدلات الإنفاق المطلوبة. هذا وقد وجدت أفكار كينز تأييدًا كبيرًا من قبل الرئيس الأمريكي روزفيلت الذي ذهب إلى تبني سياسات اقتصادية للخروج من الأزمة المالية قائمة على أفكار كينز، المتضمنة أيضًا تدخل الدولة للحفاظ على حق العامل في التشغيل والائتمان الاجتماعي والصّحي وغيرهما.

خُطّة روزفلت المستقاة من نظريات كينز أخرجت أمريكا من أزمة 1929 بمعدلات نمو مرتفعة. وفي مُختلف القطاعات تدخّلت الدولة؛ إما بتقديم سيولات مالية للقطاعات البنكية، أو بتخفيض نسبة الفائدة والضريبة، أو بوضع حد أدنى لأجور العاملين في القطاعات الصناعية، أو بتنظيم القطاعات الاجتماعية بسن قوانين للتأمين على البطالة والتقاعد، أو باستثمار الدولة في مشاريع عملاقة تستهدف أساسًا تشغيل العاطلين، وفي فرنسا على سبيل المثال، أممت الدولة شركة المترو، كما أممت الحكومة الإنجليزية شركة إنتاج الفحم، وضخّت حكومة كلتا الدولتين الأموال في كلتا الشركتين لدعم استمرارية الإنتاج فيهما.

استطاعت أفكار كينز تحقيق معدلات نمو ظلّت في ارتفاع مُستمر لعقود، قبل أن يعصف بالنظام المالي انهيار حاد في 2008 بدأت بوادره منذ بدايات القرن الواحد والعشرين. على الفور لجأت الدول إلى تطبيق خُطّة إنقاذ جون مينارد كينز، ما حدّ من عواقب الأزمة في دولة كالولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلن رئيسها باراك أوباما في 2009 خطة لتحفيز اقتصادها تضمّنت خفض الضرائب مع زيادة الإنفاق الحكومي.

وفي سبيل تدارك الأزمة، دعا صندوق النقد الدولي الحكومات والأنظمة إلى زيادة الإنفاق لكبح جماح الأزمة المالية، ما دفع بدولة كالصين في بدايات الأزمة إلى تبني خُطّة تحفيز قائمة على زيادة الإنفاق الحكومي بما نسبته 8% من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى الرّغم من أثر كينز في إنقاذ الاقتصاد العالمي عامة، والاقتصاد الأمريكي خاصة (لنفوذ الدولار)، إلّا أن العديد من الباحثين يرون إشكاليات من نظريات كينز تجعل منها قصيرة المدى، ولا تعتمد على الديمومة، فيما يرى آخرون سوء تطبيقها الذي أدّى إلى حدوث ركود كبير آخر في 2008، فضلًا عن سوء استخدامها لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه؛ من بين هؤلاء آلن ملترز الباحث الأمريكي في مؤسسة كارنيجي مالون، الذي يرى أن جون كينز “يتقلّب في قبره” بسبب سوء إدارة أوباما للأزمة الاقتصادية، رغم زعم الأخير اعتماده على نظريات كينز.

ما فعله كينز هو أنّه حافظ على الرأسمالية للرأسماليين – الاقتصادي الحائز على نوبل جوزيف ستيجلز .

محمد العتر 

ساسة بوست