هل تمت إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي بولتون أم استقال؟ ليست تلك هي المشكلة، فالحديث عن دور انتهى بعد يوم واحد من إعلان أخبار عن استعداد ترامب للقاء نظيره الإيراني حسن روحاني، ما يعني أن بضاعة بولتون لم تعد مرغوبة لدى الإدارة الأمريكية، وأن هذه الإدارة لا ترغب في أي مغامرة عسكرية يمكن أن تلحق بها هزيمة معنوية تقطع الطريق على طموحات الرئيس الأمريكي في فترة رئاسية جديدة.
تبدو إيران اليوم في أفضل موقع استراتيجي ممكن، فالعقوبات المتواصلة دفعتها تقريباً إلى الحائط الأخير، وجعلتها تعيش بروفة العزلة على النمط الكوري الشمالي أو الجنوب افريقي سابقاً، وبذلك تبدت معالم الاكتفاء الذاتي الممكن تحقيقه في بلد بحجم إيران، وحصلت إيران أيضاً على اختبار تحركات الشارع الموسمية، التي بقيت بعيدة عن أي وضعية تمكنها من ضرب الدولة العميقة، ولذلك فإن الأمريكيين لم يعد أمامهم في ترسانة حلولهم سوى الحرب، وهو الاختيار الذي ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة للأمريكيين، الذين يفضلون الانقضاض على خصم منتهي الصلاحية، كما حدث عندما هبطوا على الفوضى الأفغانية أو على العراق المرهق، بعد أن أطلق الرصاص بنفسه على عمقه الخليجي ليعيش سنوات حصار استنزافي طويلة.
ترامب بسياسته المرتبكة يواصل تقديم الهدايا المجانية للإيرانيين، الذين يتقنون استغلالها والرفع من شروطهم في كل مرة
المغامرة الإيرانية أكبر مما يطيقه الرئيس الأمريكي أو يتحمله، فرجل العقارات يحب الصفقات الساخنة بأرباح كبيرة وسريعة، ولذلك فالتخلص من بولتون يعتبر اختياراً مناسباً في هذه المرحلة، فالصوت المرتفع لبولتون سيحرج الرئيس الذي أبدى سلوكاً متساهلاً ومتردداً تجاه الإيرانيين بعد حادثة الطائرة على مياه الخليج، ومطاردة ناقلة النفط الإيرانية على امتداد البحر المتوسط، وبذلك يكون الرئيس تخلص من معظم الفريق السياسي، لتخلو أمامه الأجواء للارتجال الذي يفضله، والذي يلجأ له بصورة مفتوحة ليستهلك من رصيد السياسة الخارجية الأمريكية.
يتبقى الفتى المدلل جاريد كوشنر، الذي يبدو أنه يمرر تنازلات أمريكية تجاه الإيرانيين، للعمل على الوصول إلى تسوية متعجلة في ملف «صفقة القرن»، فالوقت الذي أخذ يداهم كوشنير، والتأجيلات المتتابعة يمكن أن تدفّعه ثمنا باهظا من أجل تحييد إيران، إذا كانت تمثل عائقاً أمام اتمام الصفقة، وما يبدو للمتابعين أن شهية كوشنر تنحصر في إتمام صفقة للقرن تؤكد بقاء اسرائيل وتفتح أمامها الطريق من أجل المزيد من التوسع، فالمستشار لم يعمل تقريباً سوى على ملف الصفقة، وظهوره يكاد يكون معدوماً في أي ملفات أخرى من كوريا الشمالية إلى بريطانيا.
قبل وفاته بفترة وجيزة أكد محمد حسنين هيكل، أن الأمريكيين لن يخسروا إيران، وكان فحوى حديثه يدور حول تفضيل الأمريكيين لإيران على العرب، والتأمل في مسارات الأحداث، يعزز وجهة النظر التي حملها هيكل، والتي لم ينتبه لها الكثير من الدول العربية وخاصة في الخليج، أو حاولت إنكارها. تقوم وجهة نظر هيكل على تحليل استراتيجي لوزن إيران النسبي، من حيث كتلتها السكانية، ووجود عقيدة متجذرة لدى أطياف واسعة من شعبها، وموقعها الذي يسهل للأمريكيين الحصول على موقع متقدم في صراع محتمل مع الصين، أو مُبيّت مع روسيا، وهي أمور لا تتوفر للمجموعة العربية المشتتة بين دول ضعيفة الكثافة السكانية في الخليج، وعلى تماس مباشر بمشكلات المتوسط وتوازناته في مصر وسوريا، مع سلوك وميل للانكفاء، جرت ممارسته من مصر تحديداً حيث تمكنت جميع الدول المنافسة من الوصول إلى تأثير كبير في الحديقة الافريقية الخلفية لمصر، بدون أن يستدعي ذلك ردة فعل تدلل على نية مصر الدخول في لعبة القوى على مستوى المنطقة، أما الأتراك، فعيونهم على الغرب بانتظار توقيت مناسب يجعلهم يقفزون في العربة الأوروبية، بعد أن فشلت تقريباً تجربتهم في استعادة مجال نفوذهم الحيوي السابق.
إيران واسرائيل تبدوان قوتين متأهبتين لديهما القدرة على الفعل، أو التلويح بالفعل، فلماذا لا يتم التسلل عبر هذه النقطة والتضحية بالحلفاء العرب، الذين سيجدون أنفسهم بعد التخلي الأمريكي، مضطرين للالتحاق بالتسوية بشروط أقل كثيراً مما كانوا يطلبونه أو يتوقعونه، وسيظهر المشهد وكأنهم ضيوف على مائدة تقام على أرضهم ويدفعون ثمنها، وهو الأمر المؤسف الذي يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد النتيجة الطبيعية لتنافس غير مبرر وغير منطقي استهلكوا فيه أنفسهم وطاقاتهم وأموالهم ومعنوياتهم.
يمكن ألا تستجيب ايران، وغالباً لن تستجيب لأنها غير مضطرة لذلك، ولأن الرئيس الأمريكي بسياسته المرتبكة يواصل تقديم الهدايا المجانية للإيرانيين، الذين يتقنون استغلالها والرفع من شروطهم في كل مرة، والاحتمالات تبقى مفتوحة بين استمرار فصول الصراع مع إيران وحولها من ناحية، ومفاجأة العالم بتطورات لم تكن متخيلة قبل بضعة أسابيع.
ستحيق خسارة جديدة بالعرب، وما الجديد في ذلك؟ فالخسارات الاستراتيجية ستبقى واردة طالما لم تحدث حالة استفاقة عربية تتعلق بامتلاك تلك الحالة، التي تقوم على أسس ذاتية، كما كانت إيران في العقدين الأخيرين، بتحقيق وزن نسبي يقوم على تحشيد الإمكانيات، ووقف الاستنزاف الذاتي الذي يقوم على تزاحم غير منتج وغير ضروري، فكل انتصار في العلاقات البينية العربية هو هزيمة مبطنة في الوزن الإجمالي للتأثير، وإذا كان العرب غير واعين لأهمية التحرك ككتلة، فالعالم كثيراً ما يعتبرهم كتلة واحدة في منعطفات شبيهة بما يحدث اليوم.
التقدم الإيراني يأتي على حساب جميع جيرانها، من باكستان التي تعيش حالياً في مراجعة شاملة لقائمة أصدقائها وحلفائها، إلى دول الخليج العربي التي تستشعر فداحة الثمن الأمريكي الذي تؤول نتائجه إلى صفر أو حتى دون ذلك.
القدس العربي