اتفقت واشنطن وأنقرة حتى الآن على “منطقة آلية أمنية” لنزع فتيل التوتر، والتركيز على 75 – منطقة عازلة طولها ما بين تل أبيض ورأس العين، مع قيام الجيشين بإنشاء مركز مشترك للعمليات في أنقرة. وفي نهاية الأسبوع الماضي، وبعد أربع جولات استطلاعية في المنطقة، أجرت القوات الأمريكية والتركية أول دورية برية مشتركة. لكن تلك الجهود المشتركة لم تمنع أردوغان من انتقاد الولايات المتحدة منذ ذلك الحين، حيث اتهم واشنطن بالسعي لإقامة منطقة آمنة لـ “منظمة إرهابية”، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردي، التي تصنفها تركيا كجماعة إرهابية. وأوضح أردوغان أنه ” إذا لم نبدأ بتشكيل “منطقة آمنة” مع جنودنا في شرق الفرات قبل نهاية سبتمبر فلن يكون لدينا خيار سوى تنفيذ خططنا الخاصة”.
ومنذ ذلك الحين انتقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلوا الولايات المتحدة، قائلاً إن مواقف الولايات المتحدة من المنطقة الآمنة في سوريا لا تطمئن تركيا. وقال “أن الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة كانت “تجميلية” فقط”. تعكس هذه التصريحات التركية المناهضة للولايات المتحدة عدم الثقة بين الجانبين، مما يوحي بأنه سيكون من المستحيل منع عداء أردوغان تجاه واشنطن ونواياه تجاه الأكراد السوريين من خلال الحفاظ على السياسات الحالية تجاه تركيا، خاصة وأن بوتن يدفع أردوغان نحو المواجهات والعنف مع الأكراد، وخاصة في إدلب. كما عبر المسؤولون الأمريكيون عن شكوكهم في قدرة الجيش التركي على مواصلة هذه العملية المكثفة والمعقدة في شمال شرق سوريا، لكنهم في نفس الوقت ما زالوا قلقين من أن أي غزو تركي سوف يتعارض مع أهداف وجهود مكافحة الإرهاب الأمريكية وعلاقاتها مع الحليف الناتو. ونتيجة لتلكك المخاوف، يقال إن البنتاغون يستعد حاليا لإرسال حوالي 150 جنديًا إلى شمال شرق سوريا للقيام بدوريات حراسة على الأرض إلى جانب القوات التركية. هذا الانتشار الجديد، الذي كان قد أبقى في السابق سراً، هو جزء من سلسلة من الخطوات العسكرية والدبلوماسية المتنامية التي اتخذتها الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة لنزع فتيل التوترات المتزايدة مع تركيا حليفة الناتو بشأن دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأكراد السوريين، وهي تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو كبح جماح المصالح التركية في شمال شرق سوريا.
وتتمحور التحديات التي تطرحها هذه المنطقة الآمنة حول بعض ساكنيها الحاليين، السوريون الأكراد. ففي العام 2014، التزمت إدارة أوباما وحلفاؤها في التحالف بدعم أكراد سوريا في حربهم ضدّ تنظيم “داعش”. غير أن خطاب أردوغان اللاحق وتصرفاته أججت بشكل مستمر التوترات ومارست الضغوط على الأكراد في كردستان العراق وسوريا على السواء. وفي 2014 على أقرب تقدير، شملت استراتيجية الرئيس التركي ترك سكان كوباني – مدينة سورية تأوي شريحة كبيرة من الأكراد على مقربة من الحدود التركية – لمواجهة “داعش” بمفردهم. وشوهد الجنود الأتراك وهم لا يحركون ساكنًا بينما يتمّ تسوية كوباني بالأرض. فضلًا عن ذلك، استمر أردوغان في تطبيق سياسات تستغل الوجود المتواصل للتطرف في سوريا من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية، كل ذلك سعيًا إلى الحدّ من الطموحات الكردية على الحدود الجنوبية لتركيا وتقويض التعاون بين الأكراد والقوات الأمريكية في الحرب ضدّ تنيم “داعش”.
لكن حدة سياسات أردوغان وخطاباته التحريضية ضد أكراد سوريا تصاعدت في أعقاب قرار الرئيس ترامب الانسحاب من سوريا. فرغم أن الولايات المتحدة واصلت تحيّزها لحلفائها الأكراد خلال هذه الفترة، كان وقوفها ضدّ التدخل التركي غير فعال، ما عزّز بشكل أكبر استعدادات أردوغان لتوجيه ضربة ضد أهداف كردية في سوريا. في ذلك الوقت، لم يساهم غياب رسالة واضحة من الإدارة سوى في ترسيخ عزم أردوغان على اجتياح المناطق الكردية، مبررًا أفعاله هذه بمزاعم أن الأكراد يطرحون تهديدًا على الأمن القومي التركي. ولاحقًا، حوّل أردوغان أقواله إلى أفعال من خلال التآمر مع روسيا وإيران في غزو الجيب الكردي السوري في عفرين، الأمر الذي سمح في نهاية المطاف للمجموعات المتطرفة السورية المرتبطة بتحالف المعارضة السورية بارتكاب جرائم حرب لا تحصى بحق الأكراد واليزيديين.
وفي ظل مساعيها إلى إلغاء الوجود الكردي على الحدود السورية، سلّحت تركيا أكثر من 40 ألف مقاتل سوري، ودعمت منظمات متطرفة إسلامية وتلقت الدعم من المعارضة السورية من أجل فرض حصار على مناطق الأكراد. ومنذ ذلك الحين، يطالب الأكراد الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بإنشاء منطقة حماية أو “منطقة حظر جوي” في وجه هذه الجماعات المعارضة العنيفة. غير أن أمن أكراد سوريا سيتحسن فقط من خلال تغيير أطر المنطقة الآمنة القائمة حاليًا.
وخلال المفاوضات مع الولايات المتحدة، سعت تركيا إلى إقامة خط بعرض 40 كيلومترًا وبطول 380 كيلومترًا، في حين كان عرض الولايات المتحدة أقل بكثير حيث اقترحت إنشاء خط بعرض يتراوح بين 7 و 10 كيلومترات وبطول 140 كيلومترًا من كوباني إلى القامشلي. وبعد الكثير من النقاش من جانب الطرفين، تمّ تعليق القرار بشأن الأبعاد الفعلية للمنطقة، حتى لو كانت عملية إقامة المنطقة بحدّ ذاتها تحرز تقدمًا.
لكن مع تبلور العملية، من الضروري ألا تغيب طموحات تركيا في المنطقة عن بال الولايات المتحدة. فدور أردوغان وروحاني وبوتين في عرقلة التوصل إلى أي حل سياسي للنزاع السوري، ومساهمة تركيا في انتشار التطرف في سوريا من خلال توفير الدعم اللوجستي للجماعات المتطرفة وسيطرتها على جماعات جهادية راديكالية في إدلب وجرابلس والباب وعفرين، كلها عوامل أظهرت تركيا بمظهر الحليف غير الموثوق، وهو أمر يجب أخذه في الحسبان خلال إقامة المنطقة الآمنة.
فأردوغان ينفذ تكتيكاته المخادعة أساسًا، حيث أعلن وزير الدفاع التركي مؤخرًا أن روسيا ستستأنف تسليم منظومة الدفاع الصاروخية أس-400 إلى تركيا – معارضةً بذلك رغبات الولايات المتحدة. ورغم تبرير هذه المشتريات بالمخاوف الأمنية، انحرفت ممارسات تركيا الأخيرة جدًا عن الأفعال التي من شأنها تحقيق هذا الهدف، ما يشير إلى أن هذه الأسلحة قد تُستخدم لتوسيع الهيمنة التركية.
في المقابل، هدّدت الكثير من الأفعال التي نفذتها تركيا في سوريا تحت راية حماية أمنها القومي الأمن من خلال تعريض البلاد لمخاطر أمنية ومالية بسبب تدخلها في سوريا. وإلى أن تردّ الولايات المتحدة وتتصدى لجهود أردوغان، سيواصل هذا الأخير اللجوء إلى الخداع للفوز بالامتيازات وكسب الوقت.
وإن أقيمت المنطقة الآمنة في سوريا وفق شكلها الحالي المتفق عليه، سيعاني حلفاء الولايات المتحدة الأكراد من دون أن يعود ذلك بفائدة حقيقية على أمن تركيا. عوضًا عن ذلك، ستسهّل المنطقة الآمنة قمع أردوغان المستمر للأكراد من خلال سياسته المتشددة المعارضة لأي مكاسب سياسية قد يحققها الأكراد، في وقت يسرّع فيه التدخل التركي في سوريا. وفي الواقع، قد يؤجج توسيع المنطقة الآمنة، إلى جانب سياسة تركيا القائمة على تعزيز سيطرة الجماعات المتطرفة والمعارضة على شمال شرق سوريا، شرارة نزاع آخر – هذه المرة بين السوريين العرب والأكراد.
ومن شأن نزاع مماثل أن يعقّد الأزمة السورية بشكل أكبر. غير أن صمت الولايات المتحدة إزاء المسألة منح أردوغان الدعم الذي يحتاجه للمضي قدمًا في تنفيذ أجندته في سوريا، بما في ذلك من خلال اعتماد سياسات بغيضة معادية للمهاجرين محليًا، التي ربما صُمّمت لتنذر بإعادة توطين الملايين من المهاجرين السوريين الذين يعيشون حاليًا في تركيا في مدن كردية. وستشرد هذه العملية سكان المنطقة الحاليين وتكون بمثابة تكرار واسع النطاق لما حصل في عفرين. كذلك، قد تسهّل سيطرة تركيا على المنطقة الآمنة نقل إيران للأسلحة والمال إلى “حزب الله” ونظام الأسد، ما يساهم في استمرار النزاع في مناطق أخرى من سوريا أيضًا.
هذا وقد تساهم سيطرة تركيا على المنطقة الآمنة أيضًا في الالتفاف على العقوبات الأمريكية على إيران. فإن خضعت هذه المنطقة الآمنة لسيطرة تركيا، سيحصل أردوغان على منفذ إلى مصادر رئيسية للطاقة والغاز والنفط. كما قد تستخدم تركيا حدودها المشتركة مع سوريا والعراق لشراء الغاز الإيراني وتهريب السلع من طهران إلى أنقرة عبر سوريا بغية الالتفاف على العقوبات الأمريكية. يُذكر أنه سبق لتركيا أن تجاهلت العقوبات الأمريكية في الماضي، بما فيه عام 2012 عندما ساعدت إيران على تهريب 85 طنًا متريًا من الذهب عبر دبي – التي تعتبر مركز شحن معروفًا إلى إيران.
وكي تحافظ الولايات المتحدة على مصالحها في سوريا وتواصل مكافحة الإرهاب، عليها حماية حلفائها الأكراد من التهديدات التركية في المنطقة الآمنة. وبإمكانها القيام بذلك من خلال ضمان أمن الحدود بين تركيا والأكراد داخل سوريا، وتفويض مراكز الجيش بمراقبة المنطقة، وممارسة الضغط على تركيا للانسحاب من المدن السورية، ودعم حل سياسي برعاية الأمم المتحدة. وعلى الولايات المتحدة السعي إلى منح أكراد سوريا استقلالية لضمان مصالحهم ومستقبلهم في المنطقة. ففي النهاية، اتضح أن حلفاء الولايات المتحدة الأكراد في سوريا أكثر ولاء لمصالح الولايات المتحدة وحلف “الناتو” من تركيا.
معهد واشنطن