أمضى ديفيد كاميرون ثلاث سنوات طوال يتأمل ما وقع من أخطاء كبيرة في عملية الاستفتاء حول عضوية الاتحاد الأوروبي كلها. ومع ذلك، وحتى الآن، فإنه يشبه رجلا جلب كعكا لقهوة الصباح لأن أحداً لم يخبره بأن هناك في الحقيقة معركة بالسكاكين سيأتي إليها كل شخص مسلحاً بمسدس.
كان توم برادبي من قناة “آي تي في” واحدا من أشخاص قليلين سُمح لهم بقراءة مذكرات كاميرون قبل صدورها الأسبوع المقبل. ومثل كل الآخرين توصل هذا الإعلامي إلى الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه الجميع، وهو أن الرجل الذي قاد حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي ” يبدو في كتابه الذي يقع في 800 صفحة، وكأنه متشكك بأوروبا وغاضب منها”.
وهذا في حقيقة الأمر جوهر المسألة. فديفيد كاميرون اللطيف والمهذب ظنّ أنه سيفوز باستفتاء لطيف ومهذب، يستطيع أن يقول عبره وبشكل مهذب ولطيف إن البقاء في الاتحاد الأوروبي ليس عظيما، لكن الحياة ليست سيئة جدا فيه، أليس كذلك؟
ثم، ولدهشته الشديدة، اندفع مايكل غوف وبوريس جونسون الى الميدان بشكل صاخب، وهما يرددان أكاذيب حول تركيا والمهاجرين ومبلغ الـ 350 مليون جنيه إسترليني المزعوم أن بريطانيا تدفعه للاتحاد الأوروبي اسبوعياً، ثم فجأة خسر الاستفتاء.
وتلك هي الحكاية في الأساس. فخلال حوار استغرق نصف ساعة، بقي كاميرون على حاله، الرجل النزيه والمحترم والمحبوب.
إنه رجل ينتمي إلى تلك الفصيلة من الرجال النزيهين والمحترمين والمحبوبين في الأساس الذين بقوا لعدة أجيال، يفوزون في الانتخابات في هذه الجزر البريطانية النزيهة والمحترمة والمحبوبة في الأساس، قبل أن يصبح كل شيء جنونيا على نحو لا سبيل لمعالجته.
هناك محاولات لطيفة لتصفية الحسابات. أشار برادبي إلى أن الكتاب يسمّي غوف وجونسون بـ “سفراء عصر ما بعد الحقيقة”.
لكن الحسابات لن تُصفّى تماما. وليس من الممكن جعل محتويات دفتر الحسابات كلها متطابقة. فهو خسر بشكل مهول، ولن يستطيع أي عدد من الكلمات المريرة الآتية من أعماق الذاكرة أن يساعده على إحراز تعادل بالنقاط.
في سنواته الأولى، أحبّ كاميرون وصف نفسه بانه “وريث بلير”، وكم يبدو ذلك صحيحا.
عند الاستماع إلى كاميرون وهو يقدم أسبابا تجعله آسفا وغير آسف في الوقت نفسه بشأن الاستفتاء، ولماذا كان قرار إجرائه خاطئاً لكنه صحيح أيضاً، لم يكن ذلك تذكير بما سبق لنا أن رأيناه، بل هو عبارة عن عرض مؤرق بشكل فعال. فكأنك تركت إحدى المقابلات مع توني بلير حول العراق قرب سريرك ليلا ثم جرى تنزيلها تلقائياً على نظام تشغيل كومبيوتري جديد. مع أن التسجيل يبدو مختلفا، ويثير شعوراً مختلفا، فهو جوهريا ما زال على حاله.
قال كاميرون في المقابلة “حسنا، أنا آسف جدا حول ما حدث، فليس هناك يوم يمضي من دون أن أفكر بكل القرارات التي اتخذتها وكل ما أعقبها ” ثم تأتي “لكن” إلى حنجرته مسرعة كأنها بطل في رياضة الجري، فنسمعه يوضح “لكن حين أراجع ذلك القرار، كان وضع بريطانيا بحاجة إلى حل، ونحن كنا بحاجة إلى إعادة التفاوض والاستفتاء؛ أرى أن ذلك كان نهجا صحيحا”.
هل أتى ذلك عن طريق الصدفة وهل يذكّركم هذا بأي شخص آخر؟ العبارات المشحوذة بعناية، توحي بنفس نصف الاعتراف المعرفي، مركّباً كما لو خضع للتجربة على أسقف المئات من غرف النوم، بعيون مفتوحة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
إنه يطرح قضيته عن أن أوروبا لا يمكن تجاهلها قط، فحالما تصبح رئيسا للوزراء، هناك أزمة تتعلق بمنطقة اليورو أو البنوك الأوروبية التي تحتاج إعانة مالية لإنقاذها، وأنت لا تستطيع تجاهلها، إنها قضية قابلة للتصديق ومعقولة إلى حدٍ ما.
لكن هذه مصائب ظل حزب المحافظين يعاني منها أكثر من بريطانيا. هذه إهانات مفترضة لا يشعر أحد منا بحدتها سوى حزب المحافظين.
وفي نهاية المطاف، ما فعله هو عرض مشكلة حزبه أمام الناس طالبا منهم حلها من أجله، وهذه مسألة لا يمكنه، أو بالأحرى لا يمكننا أبدا حلها بل جعلها أسوأ من السابق.
كان قرارا استراتيجيا رهيبا، وفشلا ذريعا في الزعامة.
ولهذا السبب فإن رجلا نزيها ومحترما ومحبوبا مثله، قد أقصي بشكل مبكر من السياسة البريطانية.
مع ذلك، ذكرّتنا المقابلة الطويلة على امتداد نصف ساعة، بأنه كان على المرء أن يستطيع، الإيحاء على الأقل بأنه رجل شريف كي ييتمكن من احتلال أعلى منصب في البلاد. هذا ما كانت عليه الحال في الماضي غير البعيد، والسؤال الذي يبقى مطروحا هو ما إذا كانت تلك الأيام ستعود ثانية.
في الوقت الراهن، على أقل تقدير، يبدو هذا الاحتمال أبعد ما يكون عن الواقع.
اندبنت العربي