ما من شك أن استهداف المنشآت النفطية في شرق السعودية (بقيق وخريص)، وما يحمله من إرهاب اقتصادي تتجاوز حدوده الاقتصاد والجغرافيا السعودية، لا يمكن حصره بما أعلنته جماعة الحوثي أنه في إطار المعركة القائمة بين هذه الجماعة والحكومة المعترف بها دولياً، فالعملية بكل مؤشراتها، إن كان لجهة توقيت حصولها ونوعية السلاح المستخدم على اختلاف الروايات، إن كانت بالطائرات المسيّرة أو صواريخ الكروز.
واختيار الأهداف بهذا الحجم الاستراتيجي، والموقع الجغرافي وما يستدعيه من تقنيات متطورة لاجتياز هذه المسافات الشاسعة، إذا ما سلّمنا جدلاً وحسب الرواية الحوثية بأنّ نقطة الانطلاق كانت من داخل الأراضي اليمنية ولم تكن من العراق، وتحديداً من محافظة ذي قار (الناصرية)، فهي تحمل الكثير من الدلالات والاحتمالات، التي لا تقتصر على الأضرار التي ألحقتها بهذه المنشآت والتداعيات التي أنتجتها على الاقتصادات الإقليمية والدولية ومخاطر استهداف أمن إمدادات الطاقة والنفط، ولا تنحصر في الآثار السياسية التي قد تترتب على هذه الاعتداءات وما يرافقها من إمكانية الدفع بالتطورات والتوترات إلى مراحل متقدمة، تضع الإقليم وحتى الساحة الدولية أمام مخاطر نشوب حرب مدمرة، ما زال جميع الأطراف حتى الإدارة الاميركية يسعون إلى إبعاد احتمالاتها أو الوصول إليها في الأزمة القائمة مع النظام الإيراني.
وعلى الرغم من أن هذه العملية، إن صح وتأكد أن الجهة التي نفّذتها هي جماعة الحوثي، فإن ذلك لا يعني إسقاط المسؤولية غير المباشرة للنظام الإيراني، من دون أن يكون اتهاماً سياسياً أو تحميل الأمور ما لا تحتمل، أو استباقاً لنتائج التحقيقات التي أكدت الرياض أنها تعمل على إنجازها لتحديد الجهة التي تقف وراء هذا الاعتداء وانتظار واشنطن لهذه النتائج قبل أن تحدد الاتجاه الذي ستعتمده في التعامل مع نتائج هذه العملية ومحاسبة المسؤول عنها، تجعل من السهل تصويب أصابع الاتهام الى الجانب الإيراني، انطلاقاً من كونه الجهة الأكثر استفادة مما حدث في إطار المعركة المفتوحة على جميع الصعد التي يقودها ضد الدولة السعودية للتأثير في دورها ومواقفها من الملفات الإقليمية التي تعني العالمين العربي والإسلامي، في إطار الصراع المفتوح بينهما.
هذه العملية الخطيرة في تداعياتها الاقتصادية التي ستنعكس على الاقتصادات العالمية والأمنية التي تضع المنطقة على بوابة حرب مدمرة قد تكون شاملة، تطرح الكثير من التساؤلات حول التوقيت الذي جاءت فيه، ودفعت النظام الإيراني في حال تأكدت مسؤوليته عنها إلى اللعب بأعواد الكبريت، خصوصاً أن هذه العملية جاءت بعد التصعيد الأميركي الأخير في فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية التي ترافقت مع إعلان واشنطن فشل المبادرة الفرنسية التي يقودها الرئيس إيمانويل ماكرون، خصوصاً الجهود التي بذلها مع نظيره الأميركي دونالد ترمب للحصول على موافقة البيت الأبيض في ما يتعلّق بالسماح بتمديد الإعفاءات النفطية لبعض الدول في استيراد النفط الإيراني، إضافة إلى الموقف الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية وإعلان براين هوك، مبعوث الرئيس ترمب الخاص لإيران، رفض واشنطن فتح اعتمادات مالية أوروبية لطهران بقيمة 15 مليار دولار في إطار مساعي إطلاق نشاط آلية التبادل المالي والتجاري بين أوروبا وإيران (إنستكس).
ولعل الأخطر في هذا السياق والذي من الممكن أن ينطلق من رصد أبعاد هذه العملية من خارج دائرة الاهتمامات العامة لقراءة تداعياتها، أي بناءً على رصد الصراعات الداخلية للنظام الإيراني، إذ من المرجح أن تكون المؤسسة العسكرية قد صوبت على قلب الإدارة السياسية في الدولة الإيرانية من أجل قطع الطريق على أي احتمالات لنجاح حسن روحاني وفريقه في التوصل إلى اتفاق أو تفاهم سياسي أو التأسيس لمسار حواري بين الإدارتين الأميركية والإيرانية، خصوصاً بعدما استطاعت الحد من الاندفاعة التي أبداها روحاني في تأكيد استعداده “لعقد لقاء مع أي شخصية إذا كان ذلك يصب في إطار تأمين مصالح الشعب الإيراني الوطنية والقومية”، في إشارة واضحة لإمكانية ملاقاة الجهود الفرنسية لعقد لقاء بينه وبين نظيره الأميركي، من دون الأخذ بالاعتبار عينه إمكانية أن تذهب الأمور جراء الاستمرار والإصرار على التصعيد في الجانب العسكري إلى مآلات ومطارح لم تكن مدرجة على قائمة الاحتمالات لردات الفعل الممكنة، وأن ينقلب السحر على الساحر، في حال قررت واشنطن تنفيذ ما سبق أن التزمت به كلامياً بالدفاع عن حلفائها في حال تعرضهم لأي اعتداء من إيران.
وقد يكون من الممكن تسمية ما حدث من تطورات وعملية استهداف المنشآت النفطية السعودية بمثابة “نيران صديقة” على كل الرهانات الدبلوماسية والسياسية لدى روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف بإمكانية التوصل إلى حلول مع الإدارة الأميركية لإنهاء أو إحداث خرق في جدار العقوبات الاقتصادية الخانقة والمتصاعدة، فضلاً عن تعقيد الجهود الدبلوماسية التي تنشط في القنوات الخلفية لتقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران، وتساعد في تسهيل التوصل إلى تفاهمات تمهّد لحوار مباشر بينهما، إضافةً إلى ما قد تسببه من تعقيدات بالنسبة إلى الجهود التي تُبذل في الفترة الأخيرة على خط الحلول السياسية للأزمة اليمنية، وتكشف عن وجود جناح داخل النظام الإيراني لا يرغب حالياً في التقدم على المسار اليمني، مخاوف يكشف عنها الموقف الصادر عن الخارجية العمانية المعنية بهذه المساعي التي عبرت عن “أسفها” لهذه الهجمات، لكنها طلبت في الوقت ذاته من مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن السفير مارتن غريفيت دعوة أطراف الحرب في اليمن إلى طاولة المفاوضات للتوافق على إنهاء الصراع، معربةً عن استعداد السلطنة لدعم إحلال السلام في اليمن.
قد يكون النظام الإيراني قد حقق نتائج لصالحه من خلال قدرته على توظيف واستخدام مبدأ “Reasonable doubt الشك المنطقي” الذي اعتمده منذ عملية استهداف ناقلات النفط في ميناء الفجيرة وما تبعها من عمليات توقيف ناقلات وضرب أنابيب نقل النفط من أجل إبعاد التهمة عنه، إلاّ أنّ العملية الأخيرة تأتي لتضرب “قواعد الاشتباك” وترفع مستوى الاستهداف إلى مرحلة تلامس الخروج عن الخطوط الحمراء التي لا تقف عند حدود السعودية، بل تتعداها لتطال العالم بأسره حسب الموقف الصادر عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تعززه عودة الرئيس الأميركي إلى اعتماد موقف متحرك، لا يلغي إمكانية العودة إلى اعتماد الخيار العسكري في المستقبل بعد تقدير الموقف والتداعيات.
وفي حال ذهبت الأمور إلى خيار المواجهة الأميركية السعودية المشتركة أو مواجهة سعودية منفردة، فقد تجد المؤسسة العسكرية الإيرانية نفسها أمام خيار الندم بسبب هذا التصعيد واحتمالية الحرب التي ستكون مدمرة حتى إن قامت بتوسيع دائرتها لتشمل الإقليم بكامله، والتي ستسقط جميع الرهانات على عدم رغبة ترمب في إشعال أي حرب على أبواب الانتخابات الرئاسية.
اندبندت العربي