تناظرت وفاة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي بعد أيام من إجراء البلاد انتخابات رئاسية مبكرة فرضتها وفاة رئيس آخر هو الباجي قائد السبسي فتداخلت قضايا الموت والحياة والسياسة في تونس بشكل محمّل بالمعاني والرمزيّة.
أثارت هذه القضايا جميعها كثيرا من الجدل على وسائط التواصل الاجتماعي لا في تونس فحسب بل في كل البلدان العربية، وخصوصا منها تلك التي تأثرت شعوبها بالحدث الشهير لفرار بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011 بعد ثورة شعبيّة ما أدى إلى انفتاح مسلسل ثورات أو هبّات جماهيرية في مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، أفعمت الشعوب بأمل أن تنتهي احتجاجاتها بفرار زعمائها المستبدين أو بتسويات سياسية حقيقية تضع البلدان العربية على مسار الديمقراطية كما هو حال النسبة الكبرى من دول العالم.
كان موضوع بن علي حاضرا في الانتخابات التونسية الأخيرة، بل إن إحدى المرشحات كانت واضحة في إعلان انتمائها لذلك النظام، وارتكز طرحها السياسيّ ببساطة على استعادة ذلك النظام مع بعض «التوابل» الأخرى، كما كانت شخصيات النظام القديم وأيديولوجيته ظاهرة التأثير في البنى السياسية والحزبية التونسية، والمعنى طبعا أن فكر أنظمة الاستبداد يستمر ضمن العملية الديمقراطية ويزداد رواجا مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فذاكرة البشر قصيرة أحيانا، ورغبة التغيير قد تتجسد بالإصرار على حماية الديمقراطية وتوسيعها لضمّ فئات أوسع من الشعب، أو بالرغبة النكوصية بالعودة إلى الوراء واستذكار أمجاد السوط الأمني والحذاء العسكري!
استذكر ضحايا بن علي أيضاً ذكرياتهم عن أيام السجن والتعذيب والملاحقة والاضطهاد وقمع المعارضة والتضييق على حرية التعبير، فيما فضّل آخرون استذكار أيام «الاستقرار الأمني» والمستوى المعيشي المقبول للطبقة الوسطى، وتتجاهل هذه الذكريات الانتقائية أحوال الطبقات الشعبيّة في الهوامش والأرياف، والتي كانت القادح الذي أشعل الثورة.
بعض التعليقات أيضاً وضعت فرار بن علي ضمن «سجل حسناته» مقارنة بالزعماء الذين تمسكوا بالسلطة وأفنوا البلاد والعباد، وهي مقاربة غير صحيحة فهرب الرئيس التونسي، رغم الغموض الذي اكتنفه، لا يتعلّق بـ»كياسة» الرئيس ولطفه بل بتوازنات القوى التي منعته من أخذ القمع إلى آخره، بل إن الفرار، كما نرى من الشعبية الكبيرة لأنظمة القمع الأقصى، كالنظام السوري ورئيسه بشار الأسد، لدى بعض الجهات السياسية التونسية، أنها لا ترغب فقط في استعادة نظام الاستبداد بل إنها لا تمانع، إذا استلمت السلطة، في إدخال البلاد في حرب أهلية مدمّرة لمنع خصومها السياسيين من مشاركتها الحكم!
رغم المذكور أعلاه فإن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة والطابع الانتقامي من المؤسسات السياسية والأحزاب الحاكمة حاليا، والذي يعبر عنه وصول رجل الأعمال نبيل القروي المسجون حاليا بتهم فساد إلى الدور الثاني في الانتخابات، فإن وصول المرشح الأكاديمي قيس سعيّد المفاجئ كذلك، وبأفضل نتائج الدور الأول بين المرشحين، تدلّ على أن الشعب التونسي ما زال مصرّا على المضيّ في طريق الثورة وتمكين الديمقراطية والاستفادة من ديناميتها المساعدة على التغيير، وهو ما زال خارج نطاق وقدرات أغلب الشعوب العربية.
يضاف إلى كل ذلك طبعاً، أن مد الثورات المضادة الذي ابتدأ مع الانقلاب العسكري في مصر، وما زال مستمرا بشكل كارثي في سوريا واليمن وليبيا، بدأ يفقد زخمه وذلك بفضل الثورة السودانية الناجحة، والتي انتهت بتأليف قوى الحرية والتغيير حكومة، وبصمود الديمقراطية في تونس، وبهذا المعنى فإننا نشهد، مع الوفاة الفيزيائية والرمزية لبن علي، مرحلة تاريخية عربية تنقضي ومرحلة أخرى تولد.
القدس العربي