عندما غابت الدولة وحضر الحشد

عندما غابت الدولة وحضر الحشد

images

مع تزايد الحديث عن الالتزام العسكري والعقائدي لميليشيات “الحشد الشعبي”، والتي تبدو أكثر استعدادا واندفاعا للقتال من القوات النظامية، وتكتسب شرعية تصل إلى القداسة بسبب فتوى “الجهاد الكفائي” التي اطلقتها المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق في 13 يونيو/حزيران 2014 لمواجهة هجمات تنظيم “الدولة الاسلامية”. فان الكثير من التحليلات تؤشر إلى اسباب اخرى حول هذا الاندفاع من بينها رغبة إيرانية في تأطير الميليشيات الشيعية وجمعها في هيئة مؤسسية، سواء ما تشكل منها خلال الحرب العراقية الايرانية في ثمانينيات القرن الماضي، او الذي تأسس عقب الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003 .

ويعزز ما تقدم إن الإيرانيين ساعدوا في تنظيم تشكيلات “الحشد الشعبي”، فالمستشارون الإيرانيون المتواجدون في العراق قدموا المساعدات التكتيكية واللوجستية والفنية، ليكون هذا الحشد بعد القضاء على التنظيم حاميا للدولة الطائفية التي أرسى قواعدها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتي من المقدر لها ان تدخل في حلف مع إيران كنواة لإمبراطورية شيعية تتمد في الاقليم.

ومن المرجح ان تشكيل هذه الميليشيات جاء استلهاماً لتجربة قوات التعبئة الإيرانية التي تسمى في إيران بقوات “الباسيج”، وهي قوات عسكرية شعبية تابعة للحرس الثوري الإيراني، تضم متطوعين إيرانيين شاركوا في القتال ابان الحرب الإيرانية ـ العراقية، وكان لها دور بارز في الثمانينيات من القرن الماضي في تلك الحرب، كما شاركت في قمع الكثير من الاحتجاجات الطلابية والقومية والعمالية في عموم إيران.

ولان العراق لايزال، في حالة من الاخفاق العميق والفشل، وعاجز عن صناعة نظام مؤسَّس على قيم المجتمع السياسي الحديث، يكمله فشل في جعل الجيش في العراق يعبر عن صيغة لوطنية عراقية متماسكة وشرعية، إذ جرى استبداله بميليشيات “الحشد الشعبي”، التي كانت لها اليد الطولى في تفكيك اللحمة الوطنية، وترسيخ سلطة رجال الميليشيات المرتبطين بسلطة رجال الدين.

ولهذا فان القول بتداعيات مستقبلية ستجر البلاد إلى انقسامات وصراعات بسبب سطوة هذه الميليشيات وتحالفاتها، وهو افتراض له نصيب كبير من الصدقية، فمثلا استعراضات القوة التي تقوم بها عناصر من الميليشيات المسلحة، والتي يراد بها اختبار قدرة القوات الحكومية في الرد على تجاوزاتهم، مدركين انهم لن يحاسبوا او يتعرضوا للمساءلة، فالقوى السياسية تعتمد على ما يحققوه مقاتلوها، في الوصول إلى اهدافها، او زرع الرعب والخوف في صفوف معارضيها.

ويبدو ان حديث النصر الذي تروج له الحكومة ووسائل اعلامها، صعب وغير دقيق، رغم الحرص على اظهار مقاتلي الميليشيات وهم يحققون “انجازات عسكرية” على الخصم ويلحقون الهزيمة به، ولعل الامر الواضح للعيان ان ما تحققه هذه الميليشيات على الارض سرعان ما تخسره، بعد الظهور المفاجئ في الزمان والمكان غير المتوقعين للعدو، وبحسب معلومات موثقة فان تزايد الخسائر البشرية في صفوف الميليشيات، تعكس حالة من انعدام الكفاءة بالنظر إلى السرعة التي يتم فيها اعداد المقاتل، فضلا عن الارتباك  على المستوى اللوجستي، لجهة الاخفاق في تموين قطعاته واعاشة ونقل افراده وقلة تسليحهم.

والامر الملحوظ في تجربة “الحشد الشعبي”، ان ثمة تسابق فردي وجماعي من قبل احزاب وساسة ووكلاء مراجع دينية، لتأكيد الطاعة العمياء لفتاوى “الجهاد الكفائي”، واظهار الانضباط العقائدي بها، نشير إلى ما قام به الشيخ عبد المهدي الكربلائي معتمد المرجعية في كربلاء، إذ عمد إلى تحويل هيئة خيرية إلى وحدات عسكرية، لتشارك في معارك غير متكافئة مع مسلحي “الدولة الاسلامية”، يقودها احد مرافقيه ممن لا يمتلكون الخبرة القتالية والدراية العسكرية.

ومع هذا، بدأت تتزايد حالات الانسحاب بين متطوعي الميليشيات من فصائلهم المسلحة، والتخلي عن مقاتلة “داعش” لتأخر صرف مستحقاتهم المالية لأكثر من ستة أشهر، في وقت أعلنت الحكومة العراقية عن تخصيص مبالغ مالية لصرفها لهم بعد إنجاز القضايا التنظيمية المتعلقة بإبرام عقودهم مع وزارة الدفاع. بالنتيجة، يقوم الكثير من عناصر الميليشيات بعملية اختطاف وسرقة اموال المواطنين وتفجير البيوت، والتي قد تفسر انها محاولة للتعويض عن عدم صرف الرواتب لهم.

ولعل اظهار الوحشية في السلوك والبذاءة والسباب في الكلام، يفصح عن انقسام مجتمعي عميق، انتهى بالانتقام وارتكاب جرائم يندى لها الجبين الانساني؛ كالتمثيل بجثث الموتى، وحرق المدنيين الأحياء، وهرس الناس بالدبابات، وقيامهم بنهب المنازل والمحلات التجارية ثم حرق هذه المحلات للتغطية على جرائمهم.

وتكشف الفيديوهات التي تم تسريبها حول ما فعله أفراد وجماعات من ميليشيات “الحشد الشعبي” بخصومهم السنة، عن ثقافة يقصد منها ان خوض القتال بدموية ووحشية يحمل الآخر على الخضوع ويجعله خانعا للقوي، يؤمن بقاء الجماعة ويحفظ وجودها. ومن جهة اخرى فان تبريراً فجاً فسر عمليات القتل هذه بوصفها انتقام لهجمات التنظيم على المدنيين الشيعة، او لتمرير تكتيك “الأرض المحروقة” ضد الآخر، المتهم بانتمائه لتنظيم “الدولة الاسلامية”، ما يتطلب معاقبته.

لقد كان محصلة حل الجيش العراقي في عام 2003 واعادة تشكيله على اسس طائفية، الوصول إلى لحظة العجز وعدم القدرة على القتال، ما يتطلب تشكيل مؤسسة بديلة تتولى المهام العسكرية والقتالية. وبذات المعنى، فان انهيار الجيش ابان احداث الموصل في حزيران 2014، جعل من ميليشيات “الحشد الشعبي”، ضرورة باعتباره المنقذ التاريخي من احتمالات سقوط الدولة والركيزة الأساسية في النظام الأمني، وبالتالي فان الميليشيات اليوم تسهم بشكل او آخر في رسم خرائط سكانية وجغرافية في سامراء و تكريت و ديالى ثم الانبار، ما يعيد تشكيل التركيبة المذهبية لهذه المناطق ذات الأهمية الحيوية لكل أطراف الصراع المحلية والإقليمية أيضا.

وتعتمد الميليشيات في معاركها، على الكثافة النارية الهجومية والموجات البشرية ومحاولة سحب الخصم الى القتال في ارض مفتوحة، وهو التكتيك الذي كان يعتمده الجيش الإيراني في الحرب على العراق خلال الثمانينيات من القرن الماضي، إذ سلمت طهران بعض فصائل “الحشد الشعبي”، اسلحة ثقيلة جديدة وصواريخ ذات قدرة تدميرية هائلة لم يتم استخدامها سابقا في المعارك، لكن تمت تجربتها في المناورات التي اقامتها إيران خلال الفترة الماضية.

وبالمقابل فان تمدد تنظيم “الدولة الاسلامية” في العراق، ينطوي على عدد من المخاطر بالنسبة لإيران، منها امتداد ظاهرة استيلاء التنظيمات الجهادية عبر الإقليم على مناطق حيوية اخرى، لاسيما في دول الجوار الإيراني وبصفة خاصة في باكستان وأفغانستان، اللتان شهدتا بالفعل إعلان لتنظيمات جهادية محلية ولاءها لـ”داعش”، بدافع من نجاح نموذج التنظيم في العراق، كما أعلن الاخير رسميا تمدده إلى لبنان، متبنيا التفجير الانتحاري الذي وقع في 26 يونيو/حزيران 2014 في منطقة الروشة بالعاصمة بيروت.

ومن هنا، فان تصاعد التدين الشيعي في العراق، الذي ينظر إلى إيران بوصفها حامية للمذهب ما يتطلب دعم سياساتها وتبني مقارباتها، قد اوجد مزاجا شعبيا يقبل بتولي قيادات إيرانية مهام عسكرية، كانت في لحظة ما حكرا على العراقيين وثلبا لاستقلالهم.

الميليشيات، اذن، تسعى باتجاه تحقيق المزيد من التحالف مع إيران، وكسر الامتداد السني، او منع تشكله، فان مرحلة ما بعد “داعش” تؤشر إلى مزيد من التدخل الإيراني التي يزيد من مدى تهميش الكرد والسنة وحتى بعض الشيعة. ومن الخطأ الافتراض أن نشاط هذه الجماعات العسكرية الموالية لإيران يقتصر على محاربة تنظيم “داعش” أو العمل في سوريا أو العراق وحدهما. إذ بدأت بالتصرف كعناصر إقليمية تتوخى اهدافاً اوسع.

ان تولي الميليشيات ادارة العمليات العسكرية وقيادتها، سيسبب دون شك في اعادة تشكيل التحالفات السياسية، وسيكون من الصعب عكس اتجاه هذا المسار طالما تمكن “الحشد الشعبي” من تحقيق نصر عسكري. فحتما ستغير الميليشيات وجه العراق المستقبلي.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية