لم تكن التنازلات الكبيرة التي قدمتها طهران في الاتفاق لتوقف حملة الشيطنة التي تشنها ماكينة الدعاية الإسرائيلية ضد مبدأ التوصل لتسوية سياسية دبلوماسية للخلاف بشأن النووي الإيراني.
فقد ظلت تل أبيب متمسكة برأيها القائل إن الحل الأمثل في التعاطي مع هذا الملف يتمثل في قيام الغرب بقيادة الولايات المتحدة بشن عمل عسكري لتصفية المشروع النووي، أو على الأقل مواصلة العقوبات الاقتصادية وتشديدها.
لم يأبه الإسرائيليون لحقيقة أن الاتفاق يضمن عمليا تجميدا شبه مطلق للبرنامج النووي الإيراني، حيث وافقت طهران على التخلي عن 98% من كمية اليورانيوم الذي قامت بتخصيبه، إلى جانب وقف العمل في منشآتها النووية، باستثناء عملية تخصيب رمزية بنسبة أقل من 3.5%، فضلا عن الموافقة على نظام مراقبة وتفتيش هو الأقسى في التاريخ الحديث، حيث إن هذا النظام لن يشمل فقط المرافق النووية، بل سيفرض أيضا على المنشآت العسكرية الإيرانية التقليدية.
ولم يظهر المسؤولون الصهاينة أي قدر من التأثر بحقيقة أن إيران قبلت في الاتفاق النهائي بما رفضته في الاتفاق المؤقت، حيث وافقت على الكشف عن كل التجارب النووية التي أجرتها، علاوة على قبولها استجواب علماء الذرة لديها من قبل خبراء اللجنة الدولية للطاقة النووية.
وقد تنافس القادة الإسرائيليون فيما بينهم في خلع الأوصاف على الاتفاق، فمنهم من وصفه بأنه “وثيقة خضوع وخنوع لإيران”، كما جاء في البيان الصادر عن ديوان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في حين اعتبرته وزيرة الثقافة ميري ريغف بأنه “رخصة دولية للقتل”.
مسوغات القلق الإسرائيلي
رغم إدراك تل أبيب حقيقة التنازلات الكبيرة التي قدمتها إيران، فإنها ترى أن الاتفاق يضمن بقاء النووي الإيراني تهديدا وجوديا لبقائها. فالاتفاق في نظر إسرائيل يضفي شرعية على مكانة إيران كدولة على حافة قدرات نووية.
ورغم تخلي إيران عن مخزونها من اليورانيوم المخصب ووقف العمل في معظم المنشآت النووية، والالتزام بتخصيب اليورانيوم بنسبة منخفضة بحيث لا يمكن استخدامه في تصنيع سلاح نووي، ترى تل أبيب أن مجرد موافقة العالم على بقاء المنشآت النووية وما تحتويه من أجهزة طرد مركزية، إلى جانب القدرات التكنولوجية والكفاءات البشرية في المجال النووي يعني إن إيران ستكون قادرة على إنتاج السلاح النووي في وقت قصير نسبيا في حال توفرت الظروف التي تقنعها بالتوقف عن احترام التزاماتها في الاتفاق.
إلى جانب ذلك، فإن نخب الحكم اليمينية في إسرائيل تعتقد أن تحديد سقف زمني لسريان الاتفاق بـ15 عاما يعني أن إيران ستكون قادرة على استئناف العمل في منشآتها النووية بكل حرية بعد انقضاء هذه المدة. وحسب المنطق الإسرائيلي، فإنه قد تحدث تحولات جذرية على النظام العالمي ويطرأ تغيير على موازين القوى فيه، بشكل يوفر بيئة مناسبة لطهران لاستئناف برنامجها النووي العسكري في ظروف مثالية.
وهناك في تل أبيب من يتوقع نشوء منظومات مصالح سياسية واقتصادية جديدة تقلص مستوى حساسية القوى الدولية والإقليمية للبرنامج النووي الإيراني، مما يعني أن إسرائيل ستكون وحدها المطالبة مستقبلا بتحمل أعباء مواجهة هذا البرنامج.
ولا خلاف في إسرائيل على أن النتيجة الأخطر لإضفاء شرعية دولية على مكانة إيران كدولة على حافة قدرات نووية تتمثل في أنه يوفر الظروف مستقبلا لإشعال سباق تسلح نووي إقليمي يهدد بحرمان الكيان الصهيوني من تفوقه النوعي في المجال غير التقليدي.
فعلى سبيل المثال، حذر “مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة” الذي يديره دوري غولد، وكيل الخارجية الإسرائيلية من أن هناك احتمالا بأن تقدم السعودية على شراء أسلحة نووية من باكستان، ردا على قبول المجتمع الدولي بامتلاك إيران قدرات نووية. وتبدي إسرائيل انزعاجا كبيرا لأن الاتفاق النهائي لم يفرض قيودا على القدرات العسكرية التقليدية لطهران، ولا سيما منظومة الصواريخ لديها.
ورغم الضغوط التي مارستها، فإن تل أبيب فشلت في إقناع الدول العظمى بفرض قيود على تطوير المنظومات الصاروخية لإيران التي ترى فيها تل أبيب تهديدا إستراتيجيا، ولا سيما أن إيران لا تتردد في تزويد أطراف “معادية” لإسرائيل بهذه الصواريخ، مثل حزب الله.
في الوقت نفسه، تعي إسرائيل أن الاتفاق ينزع منها القدرة على شن هجوم عسكري على إيران. فرغم أن نتنياهو قد هدد باستخدام الخيار العسكري ضد إيران من خلال تأكيده على أن الاتفاق مع إيران لا يلزم إسرائيل، فإنه يدرك قبل غيره أن شن عمل عسكري على إيران في حال ظلت تحترم الاتفاق يجعل الكيان الصهيوني في مواجهة العالم بأسره، مع العلم أن آخر ثلاثة جنرالات تعاقبوا على رئاسة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي قد أكدوا أن الخيار العسكري ضد إيران غير واقعي.
من ناحية ثانية، فإن الاتفاق الذي يضمن رفع العقوبات عن طهران يقلص من قدرة إسرائيل على توظيف مواردها من الغاز المكتشف حديثا في البحر الأبيض المتوسط في تحسين مكانتها الجيوإستراتيجية.
ويتوقع الإسرائيليون أن تستعيد اقتصاديات الغاز في طهران مكانتها السابقة بعد رفع العقوبات، بحيث تتمكن إيران ليس فقط من تحسين أوضاعها الاقتصادية جذريا، بل أيضا تمنحها الفرصة لبناء شراكات إستراتيجية مع قوى عالمية، ولا سيما مع روسيا. مع العلم أن إسرائيل راهنت على توظيف صادراتها من الغاز في بناء شراكة مع روسيا ولتعزيز العلاقة المتعاظمة مع حكومة اليمين المتطرف في الهند.
مصداقية نتنياهو
إلى جانب الأسباب الموضوعية التي تقلق دوائر صنع القرار في تل أبيب، هناك أسباب شخصية تجعل نتنياهو يرى في الاتفاق تهديدا لمستقبله السياسي، فقد رأت المعارضة وكثير من النخب الإعلامية في تل أبيب في الاتفاق دليلا على فشل نتنياهو في إدارة المواجهة ضد النووي الإيراني.
ودعت قيادات في المعارضة وكثير من كبار المعلقين نتنياهو لتقديم استقالته، لأنه أمر بتوظيف استثمارات عسكرية ومالية ضخمة من أجل إحباط النووي الإيراني، في حين أن المجتمع الدولي في النهاية أقر بمكانة إيران قوة على حافة قدرات نووية. من ناحية ثانية، يحتاج نتنياهو إلى وجود تهديد خارجي لمواصلة بث الخوف والفزع في أوساط المجتمع الصهيوني لإبراز شخصيته قائدا مسؤولا.
يعي نتنياهو أن الفرصة الوحيدة المتاحة أمامه لإحباط الاتفاق مع إيران تتمثل في إقناع الكونغرس بالتصويت ضده عندما يطرح عليه للتصويت، كما التزم بذلك الرئيس أوباما. وتهدف حملة الشيطنة التي تعكف عليها ماكينة الدعاية الإسرائيلية خاصة إلى إقناع أعضاء الكونغرس بالتصويت ضد الاتفاق.
وتقوم آليات الشيطنة على بث رسائل مفادها أن إيران ستوظف الفائض الهائل من الأموال التي ستحصل عليها بعد رفع العقوبات في دعم التنظيمات “الإرهابية” التي تدور في فلكها، بما يمثل خطرا على مصالح إسرائيل والولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل إن القادة الإسرائيليين يصورون الاتفاق باعتباره نتاج قرار مسبق اتخذه أوباما بتدشين شراكة إستراتيجية مع إيران لإدارة شؤون المنطقة، ولا سيما بعد ظهور خطر تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وقد عبر عن ذلك بوضوح وزير الحرب الصهيوني موشيه يعلون عندما قال إن إدارة أوباما ترى في إيران جزءا من الحل لمشاكل المنطقة، في حين أنها تمثل لب المشكلة.
ورغم أن نتنياهو يضمن تصويت الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس ضد الاتفاق، فإنه مطالب بإقناع عدد من النواب الديمقراطيين للتصويت ضده أيضا، بحيث يشكل مجموع الأعضاء المصوتين ضد الاتفاق ثلثي عدد الأعضاء، مما يعني قطع الطريق على الرئيس أوباما لاستخدام حق الفيتو الذي تعهد باستخدامه من أجل تجاوز نتيجة التصويت في الكونغرس.
ويعي نتنياهو أن هذه المهمة ستكون صعبة جدا، على اعتبار أن إصراره على إلقاء خطاب في الكونغرس عشية الانتخابات التشريعية الإسرائيلية الأخيرة أوجد حالة من الاستقطاب داخل الكونغرس، دفعت عددا كبيرا من النواب الديمقراطيين لمهاجمة نتنياهو بشكل غير مسبوق. وفي محاولته للنجاح في هذه المهمة، توجه نتنياهو لرجال الأعمال اليهود الذين يمولون حملات النواب الديمقراطيين، وطلب منهم الضغط على هؤلاء النواب لتجنيد عدد منهم للتصويت ضد الاتفاق.
لكن هناك من يرى أن نتنياهو من خلال محاولة اللعب على تناقضات الحلبة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، يتسبب في ضرر كبير للمصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، عبر المس بالعلاقات الحيوية مع الولايات المتحدة. وحسب هذا المنطق، فإنه حتى لو نجح نتنياهو في إحباط تمرير الاتفاق داخل الكونغرس، فإن هذا التطور سيوجد جبهة أميركية واسعة ضد إسرائيل، على اعتبار أن هذا يمكن أن يفضي إلى توحد الديمقراطيين والنخب الإعلامية والثقافية المرتبطة بهم خلف أوباما وضد إسرائيل.
ويكتسب هذا الهاجس أهمية خاصة في ظل التقديرات التي تؤكد أن ميزان القوى الديموغرافي في الولايات المتحدة سيكون لصالح ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية الذين يمثلون جمهور الحزب الديمقراطي، مما يعني أن ممثلي الحزب سيكونون الأوفر حظا بالفوز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
توظيف الموقف العربي
كما فعل ذلك طوال الوقت، يوظف نتنياهو موقف الدول الخليجية المعارض لامتلاك إيران قدرات نووية في تسويغ مطالبته للكونغرس بالتصويت ضد الاتفاق. لكن موقف نتنياهو هذا يعكس قدرا كبيرا من النفاق، حيث إنه بينما يعمد إلى توظيف الموقف العربي الرافض للنووي الإيراني، يعمل حاليا بكل قوة من أجل منع الولايات المتحدة من تزويد السعودية بسلاح نوعي، كما وعد أوباما أثناء لقائه بقادة الدول الخليجية في “كامب ديفيد” في مايو/أيار الماضي، بحجة أن حصول الرياض على هذا السلاح يهدد التفوق النوعي لإسرائيل.
وهو ما حدث سابقا تماما حين أحبطت إسرائيل مخططا أميركيا لتزويد الأردن بطائرات بدون طيار، رغم أن قادة تل أبيب يخرجون عن طورهم وهم يشيدون بمتانة التحالف الإستراتيجي مع النظام الأردني.
قصارى القول إن الحملة ضد الاتفاق تعكس قصر النظر والأنانية الذي تتسم بها القيادة الإسرائيلية التي تعودت حسم الأمور بشن الحروب والحملات العسكرية، ولا تستطيع أن تتصور أنه بالإمكان حل خلاف دولي بالوسائل الدبلوماسية. من هنا، فإن نتنياهو سيفشل في إحباط الاتفاق مع إيران لأنه ببساطة غير قادر على طرح بديل آخر أكثر جدوى للعالم وأقل كلفة.
صالح النعامي
موقع الجزيرة نت