أنجزت إيران إثنين من أعمدة استراتيجيتها الثابتة منذ زمن: الأول، الإعتراف الأميركي – والدولي أيضاً – بشرعية النظام الإيراني مع التعهد بعدم مد العون لأية معارضة إيرانية تمثلت بالإصلاح أو سعت للإنقلاب على السلطة. الدعامة الثانية تمثلت بإقرار أميركي ودولي بانتماء طهران الى النادي النووي وحقها بتخصيب اليورانيوم مع التعهد بإنهاء النظر في نشاطاتها النووية تحت عنوان «منع انتشار الأسلحة النووية» مع نفاذ قرار مجلس الأمن السابق المتوقع الأسبوع المقبل بعد مرور 10 سنوات عليه. أما الدعامة الثالثة من الاستراتيجية الإيرانية فهي قائمة على تنصيب طهران قوة إقليمية بارزة في الشرق الأوسط تؤخذ مواقفها ومطالبها بجدية وتجاوب من الولايات المتحدة والأسرة الدولية الأمر الذي لا مشكلة فيه لو تعهدت طهران بعدم التوسع خارج أراضيها سعياً للهيمنة الإقليمية. وهنا، في الدعامة الثالثة، تسعى الولايات المتحدة أن تطمئن حلفاءها التقليديين في المنطقة العربية الى عزمها التأثير في السياسة الإيرانية عسى تتمكن قوى الاعتدال داخل إيران من صوغ توجهات إقليمية غير توسعية لإيران الجديدة التي ولّدها الاتفاق النووي وتوّجها شريكاً استراتيجياً للدول الكبرى.
التمنيات وحدها لن تكون كافية ولا الأمل بأن يُحدِث الزلزال الاقتصادي بعد رفع العقوبات عن إيران تغييراً اجتماعياً في العصر الذهبي الآتي يؤدي الى تهدئة المحافظين واحتواء المتطرفين في إيران. لا يكفي أن يركّز وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على ما سيؤدي إليه الاتفاق النووي من حشد الجهود لمكافحة التطرف الإسلامي من أمثال «داعش» فيما تمضي روسيا في تحالفها مع ايران دعماً لنظام الرئيس بشار الأسد وتمضيا معاً في الشراكة في تدمير سورية. ولن يكون أمل الرئيس الأميركي باراك أوباما وتمنيات وزير خارجيته جون كيري كافية إذا لم يتم توظيف الأشهر القليلة المقبلة – أثناء مناقشة الكونغرس للإتفاق النووي – للحصول على مواقف إيرانية تهادنيّة مع جيرتها العربية بما يشمل الكف عن طموحات الهيمنة في أربع دول عربية. الفرصة حقاً متاحة – إذا توافرت العزيمة – لإتمام النقلة النوعية في علاقة ايران بالعالم بإجراءات طمأنة عبر البوابة الإقليمية. الفرصة متوافرة أمام باراك أوباما ليرعى التقارب الضروري والحوار الجدي وإقامة علاقة بنّاءة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران. هذا يتطلب ضمانات وليس فقط تمنيات. إسرائيل لا بد حصلت على ضمانات تدخل في إطار التحالف الاستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي. الدول الخليجية جاهزة للتفاعل مع الحدث التاريخي النووي طالما يضمن أمنها وطالما يتضمن عنصر الكبح الاستراتيجي للتوسعية. أما إذا ضربت أطراف الـ 5+1 مصالح الدول الخليجية بعرض الحائط وهي في نشوة الاتفاق النووي مع عرس ايران فإنها تكون اتخذت قرار تحفيز السعودية وغيرها على اقتناء السلاح النووي وبدء السباق النووي تشجيعاً لتوازن الرعب في الشرق الأوسط.
إيران، بالتأكيد، دخلت هذا الأسبوع التاريخ من بوابة الجمهورية الإسلامية التي شنت قبل 35 سنة حرباً على الغرب والشرق تحت عنوان: لا شرق ولا غرب، الإسلام هو الأفضل. قد يقال أن الغرب والشرق انحنيا أمام الجمهورية الإسلامية، وهذا صحيح. وقد يقال إن ملالي طهران قرروا أن إنقاذ نظامهم يتطلب منهم إعادة هيكلة الاعداء والصداقات ولهذا وضعوا تطبيع العلاقة الأميركية – الإيرانية في صدارة الأولويات. وهذا صحيح أيضاً، بل هو الإنجاز الأكبر لأن العلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة هي الأولوية القاطعة بالنسبة الى إيران.
إذاً، وبعد قطيعة ومقاطعة لعقود وعداء وعقوبات لثلاثين سنة وأكثر، دشّنت إدارة أوباما مرحلة التطبيع مع نظام الحكم الثيوقراطي في طهران متجنبة إغضابه بطرح أية قضايا معه غير الموضوع النووي ومتعمدة غض النظر عن تجاوزاته الإقليمية وانتهاكاته للحقوق المدنية وحقوق الإنسان داخلياً.
هدفها تجنب المواجهة وتبني المهادنة تلبية للرغبة الشعبية الأميركية، لكن الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع ايران يلاقي اعتراضاً وقلقاً جدياً من قطاعات أميركية عدة بما فيها الكونغرس – أو جزء منه. ما أبرمه باراك أوباما مع إيران سيؤدي الى انقسام أميركي حاد لا سيما أن الولايات المتحدة على عتبة حملات انتخابية للرئاسة. يحلو للرئيس الأميركي أن يقول تكراراً: وماذا كان هناك من خيار أفضل مما تم التوصل إليه. ويأتي الرد: كانت العقوبات المفروضة على طهران تجدي وكان في وسعك عدم الخضوع أمام املاءات طهران بالصمت على تجاوزاتها الإقليمية وخروقاتها لقرارات مجلس الأمن التي تمنعها من تصدير السلاح والعسكريين خارج حدودها الى سورية والعراق واليمن ولبنان.
الكونغرس لن يرتمي في أحضان الاتفاق النووي كما أبرمته دول 5+1 مع طهران. ستحدث مواجهة سياسية، لربما، إنما الرئيس أوباما أعطى وعده لطهران وللدول الخمس التي شاركته التفاوض على الاتفاق، وهو سيستخدم الفيتو ضد معارضة الكونغرس، إذا عارض.
المعركة قد تكون سهلة ولكن إذا أدت الى رفض الكونغرس التصديق على الاتفاق النووي مع إيران، هذا يعني أن العقوبات الأميركية المفروضة على إيران لن تُرفَع. وطهران تريد رفع تلك العقوبات. الذي سيتم رفعه إذا وافق الكونغرس أو عارض هو العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن. هذا بحد ذاته يشكل إنجازاً يتمثل بالبلايين من الدولارات، لكنه إنجاز ناقص إذا بقيت العقوبات الأميركية مفروضة.
ما سيحدث في مجلس الأمن الأسبوع المقبل عندما يتبنى القرار الذي صاغ مسودته المفاوضون في فيينا كجزء من الصفقة النووية يشكّل سابقة في أكثر من مجال. السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين كان محقاً تماماً بوصفه مشروع القرار بأنه «أحد أكثر مشاريع القرارات تعقيداً وإثارة للإهتمام في تاريخ الأمم المتحدة». لقد كانت قرارات «تدجين» العراق بسبب طموحاته النووية والإقليمية في عهد صدام حسين قرارات سابقة. أما قرار «تحرير» إيران من قرارات مجلس الأمن السابقة ومن مجلس الأمن برمته فهو حقاً ضرب خلاّق في فن التفاوض والديبلوماسية البارعة.
الديبلوماسية الإيرانية أسرعت الى الاستفادة من دخولها نادي الكبار فبادرت الى دعوة سفراء الدول العشر المنتخبة في مجلس الأمن لإحاطتها بما تم في فيينا وشرح مفهومها للإتفاق. قررت الديبلوماسية الإيرانية أن تستهل صفحتها الجديدة مع مجلس الأمن بأخذ زمام المبادرة حتى قبل أي من الدول الخمس الدائمة العضوية فيه والتي تملك حق الفيتو وتسمّى الدول الكبرى، وكلها تنتمي الى النادي النووي (الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا).
السفيرة الأميركية سامانتا باور وزّعت على سفراء الدول المنتخبة العشر نص مشروع القرار والذي تعتزم الدول الخمس طرحه على التصويت مطلع الأسبوع المقبل، وربما الثلثاء. فهذا مشروع قرار جاهز تم طبخه بكل نقطة وفاصلة وليس قابلاً أبداً لأي تغيير مهما كان طفيفاً. وبالتالي، ما ستفعله الدول المنتخبة العشر لن يتجاوز مجرد «الإلتحاق» بإجماع الدول الخمس الكبرى بـ «ختم» الاتفاق وإصدار قرار سيسمّى بالتأكيد تاريخياً.
هذا القرار المعقد يتكوّن من 7 صفحات مليئة بالأمور التقنية تضاف إليها 7 صفحات وملحقان بما فيه خطة العمل المشتركة الشاملة JCPOA وإطار التفاهم بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية. ينطلق مشروع القرار من «إلغاء» رسمي بموجب الفصل السابع من الميثاق للقرارات السابقة التي فرضت عقوبات وقيوداً على إيران وعددها 7 قرارات. ومن بين القرارات التي ستُلغى بمجرد تبني القرار الجديد القراران 1737 و1747 اللذان يتضمنان فقرات تمنع إيران من تصدير أي نوع من السلاح والعتاد والرجال خارج أراضيها وتفرض حظر السفر وتجميد الأموال على عدد من الكيانات والأفراد.
مجلس الأمن تجاهل الخروقات الإيرانية لهذين القرارين اللذين تم تبنيهما بموجب الفصل السابع الملزم، فيما كانت طهران تصدّر المقاتلين والأسلحة والخبراء العسكريين الى سورية والعراق واليمن وتموّل وتؤمّن الصواريخ لـ «حزب الله» في لبنان. فعل ذلك حماية للمفاوضات النووية، وهو يلغي القرارات هذه رسمياً مع أن لا علاقة لجزء منها بالناحية النووية – الجزء المتعلق بالتوسع العسكري الإيراني في الدول العربية.
إضافة الى ذلك، يحدد مجلس الأمن، بموجب مشروع القرار، تاريخاً محدداً – بعد عشر سنوات على دخول القرار حيز التنفيذ – كموعد لنفاذ مفعول القرار التاريخي. أي، يتم إخراج ايران كلياً من قبضة مجلس الأمن بعد عشر سنوات ويتوقف المجلس عن النظر في المسألة النووية الإيرانية.
هذه المسائل لن تمر مرور الكرام لدى الكونغرس، ويجب أن تكون موضع تساؤلات واستفهام من الدول العربية – الخليجية بالذات – عندما يتوجه إليها أركان الإدارة الأميركية لشرح الاتفاق النووي وطمأنتها إليه.
عملياً، ما يعنيه مشروع القرار الذي يتهيأ مجلس الأمن لتبنيه هذا الأسبوع، هو أن «الحرس الثوري» الإيراني لم يعد ممنوعاً من التوغّل في الأراضي العربية وان قدرته على التوسع ستزداد لأنه بالتأكيد المستفيد الأول من رفع العقوبات عنه وتدفق البلايين من الدولارات لإنجاز مهمته وفرض الأمر الواقع.
فإذا كانت هناك داخل إيران معركة بين صفوف الاعتدال التي يمثلها الرئيس حسن روحاني وبين صفوف التطرف التي يقودها قاسم سليماني، سيمضي تيار سليماني فوراً الى تحقيق الإنجازات العسكرية على الأرض والتحكم بالساحة والميدان بالأموال التي يؤمنها له الاتفاق النووي. فقوى الاعتدال لن تتمكن من المواجهة الفورية مع قوى التطرف، وأي توجهات جديدة تتبناها ستأتي لاحقاً بعد فرض قوى التطرف للأمر الواقع.
الاستثناء سيكون إذا شاء المرشد علي خامنئي لجم سليماني وقرر دعم فريق الاعتدال بقيادة روحاني كاستراتيجية إيرانية جديدة. وعسى أن يكون ذلك هو القرار الذي اتخذه المرشد لأنه في مصلحة إيران وموقعها الإقليمي والدولي وفي مصلحة شعوب المنطقة كلها.
فإذا تصرفت القيادة الإيرانية بحكمة، بوسعها أن تستغل الفرصة المتاحة لإبداء حكمة القيادة عبر حوار جدي مع القيادات الخليجية، لا سيما القيادة السعودية، عنوانه التطبيع وفتح صفحة جديدة. هذا يتطلب كبح تيار سليماني وتعزيز تيار روحاني. أما إذا سمحت لغطرسة القوة أن تفرض هيمنتها على القرار الإيراني وعلى المنطقة، فإن ذلك سيكون أسوأ استثمار لإيران، وأكبر إضاعة لفرصة تاريخية، وأخطر مسار نحو حروب مذهبية مدمرة.
فلتبعث القيادة الإيرانية رسالة نوعية الى القيادات الخليجية. هذه هي الفرصة التاريخية التي يجب عدم تفويتها سواء شارك فيها الرئيس أوباما أو أبى المشاركة.
رغده درغام
صحيفة الحياة اللندنية