كان تطوراً متوقعاً تماماً أن تلجأ الحكومة الإيرانية إلى إجراءات ضغط مضادة في وجه سياسات التضييق القاسية التي اعتمدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد طهران، وابتدأت بالانسحاب من الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، ومرّت بمرحلتين من عقوبات مشددة أضرت بالاقتصاد الإيراني خاصة في قطاع النفط. وكان منتظراً بالتالي أن تعلن إيران بدء تخصيب اليورانيوم وفق معدلات أعلى من نسبة 3,67٪ المنصوص عليها بموجب اتفاق 2015 مع القوى الكبرى، وكانت قد اتخذت خطوة أخرى سابقة على طريق خرق بنود الاتفاق حين قررت رفع الكمية القصوى المسموح بها لتخزين الوقود النووي.
ومن الواضح أن طهران بدأت هذه الإجراءات وتهدد باتخاذ خطوات أخرى كلّ 60 يوماً في سياق التطبيق الجدي لحملة ضغط على الدول الأخرى الشريكة في توقيع اتفاق 2015، لتمارس هذه بدورها ضغطاً على واشنطن لإلغاء العقوبات أو تخفيفها أو إيجاد حلول ملائمة تكفل الالتفاف على النهج العقابي الأمريكي. ومن الإنصاف التذكير بأن إيران صبرت أكثر من سنة بعد انسحاب أمريكا من الاتفاق، ومن المفهوم أنها لن تستطيع الصبر أكثر في ضوء الأثمان الباهظة التي تسددها جراء استمرار فرض العقوبات، خاصة في قطاع النفط الخام الذي هبطت نسبة تصديره من مليون برميل ساعة توقيع اتفاق النووي إلى 300 ألف برميل حالياً. كذلك فإن المراقبين الدوليين الذين تابعوا حسن تنفيذ بنود الاتفاق أقروا بأن طهران وفت بتعهداتها، فصدرت إلى روسيا نسبة 98٪ من مخزونها لليورانيوم منخفض التخصيب، وأتمت تفكيك أكثر من 12 ألف وحدة طرد مركزية، وأزالت قلب مفاعل أراك وصبّت فيه الإسمنت.
ذلك لا يعني أن هذه الإجراءات لا يمكن عكسها في كل وقت، بحيث تعود إيران إلى سابق عهدها قبل توقيع الاتفاق، حتى إذا كان البرنامج النووي الإيراني ما يزال بعيداً كثيراً عن مستوى الحدّ الأدنى من التخصيب الذي يتيح التفكير في إنتاج قنبلة نووية، على نقيض ما يزعم رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فلا دليل حتى الساعة على إمكانية البرنامج في بلوغ نسبة 90٪ من التخصيب، ولكن من الثابت في المقابل أنّ نسبة الـ 20٪ التي كانت طهران قد حققتها في سنة 2015 كانت كافية لكي تهرع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى الدخول في جولات تفاوض شاقة ومطولة تم بعدها التوصل إلى الاتفاق الشهير، الذي صادقت عليه أيضاً بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي.
وهذا يقود إلى التساؤل حول واجبات هذه الأطراف الخمسة الموقعة على الاتفاق في العمل على اتخاذ التدابير التي تكفل عدم انهياره نهائياً، وما إذا كانت سياسة كسب الوقت التي تتبعها دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا كافية بالفعل لإقناع إيران بالعدول عن اتخاذ المزيد من إجراءات خرق الاتفاق. صحيح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتابع التواصل مع الرئيس الإيراني حسن روحاني للبحث عن إمكانية التفاوض حول مشروع اتفاق جديد، ولكن هل في وسع طهران أن تسير في هذا الطريق وهي تحت نير العقوبات الأمريكية من جهة، وضغوط التيارات المتشددة الرافضة أصلاً للاتفاق داخل إيران ذاتها من جهة ثانية؟
القدس العريي