بغداد – تسابق إيران والميليشيات الحليفة لها في العراق الوقت لمنع موجة الغضب الشعبي من الاستمرار والتمدد، بالتزامن مع الجمعة، الذي ينتظر أن يشهد عمقا أكبر لهذه الاحتجاجات بالرغم من مساعي طهران لاختراقها عبر وجوه انتهازية تقليدية من رجال الدين مثل مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي دعا إلى إضراب عام لمساندة المحتجين دون أن يدفع بأنصاره إلى الميادين للاحتجاج.
وبالتوازي مع المناورة الهادفة إلى اختراق الاحتجاجات ونوعية الشعارات المرفوعة والتي من بينها شعارات معادية لإيران، دفعت الأحزاب الدينية الحاكمة الموالية لإيران بميليشياتها لممارسة العنف على المتظاهرين.
وتنتظر إيران والأحزاب التابعة لها، فضلا عن الآلاف من المحتجين، موقف مرجعية النجف بزعامة آية الله علي السيستاني التي ستجازف هذه المرة بالتدخل والتعليق على الاحتجاجات في الوقت الذي تبدو فيه متحيزة للإبقاء على المنظومة السياسية التي تنتج الفساد مع تغيير الوجوه فقط من نوري المالكي إلى حيدر العبادي وصولا إلى رئيس الوزراء الحالي عادل عبدالمهدي.
وتدفقت أعداد غفيرة من المتظاهرين، مساء الخميس، إلى ساحة التحرير في العاصمة بغداد فيما أقامت القوات الحكومية متاريس على جسر الجمهورية.
وبمقتل خمسة متظاهرين في ساحة التحرير مساء الخميس وصل عدد القتلى إلى ثلاثين شخصا فضلا عن مئات الجرحى، الأمر الذي يؤكد أن القوات الحكومية والميليشيات التابعة للأحزاب الدينية تستسهل القبضة الثقيلة لإسكات الآلاف من المحتجين، من خلال إطلاق الرصاص الحي، أو حجب الإنترنت وحظر التجوال وقطع الطرقات بين المدن والأحياء.
واستبعد مراقبون سياسيون عراقيون قدرة الجهات الموالية لإيران ورجال الدين ركوب موجة التظاهرات التلقائية التي ما زالت حتى يومها الثالث من دون قيادة توجهها، مقللين من فرصة طهران في اختراق هذه الاحتجاجات بالرهان على أسلوبها التقليدي، أي اللجوء إلى مقتدى الصدر.
ودعا زعيم التيار الصدري إلى ضرورة الحفاظ على سلمية التظاهرات الشعبية التي تشهدها البلاد، و”إسنادها” باعتصامات سلمية أو إضراب عام، رافضا “التعدي على المتظاهرين العزل الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ولا عنفا”.
وقال الصدر في بيان نشره على حسابه الشخصي على تويتر “لا نريد ولا نرى من المصلحة تحول التظاهرات الشعبية إلى تظاهرات (تيارية) وإلا لأمرنا ثوار الإصلاح (في إشارة إلى أتباعه) بالتظاهر معهم ولكننا نريد الحفاظ على شعبيتها تماما”.
كما دعا رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، الخميس، ممثلي المتظاهرين للحضور إلى البرلمان من أجل مناقشة مطالبهم، في خطوة تهدف إلى امتصاص الغضب وفتح قنوات تواصل تساعد على ربح الوقت وتبريد حالة الغضب الآخذة في التوسع.
وعزا المراقبون تردد الصدر إلى حدّ الآن في الدفع باتجاه مشاركة أنصاره بقوة في التظاهرات إلى معرفته بصعوبة إدارة مظاهرات باتت تتحرك في كل أحياء بغداد غير مخلفة وراءها أي نزعة طائفية أو حزبية، ما يصعب التحكم فيها وتحويل شعاراتها إلى مطالب اجتماعية مباشرة لا ترتقي إلى مواقف حاسمة من إيران والأحزاب التابعة لها.
ويبدو أن استمرار التظاهرات بالرغم من قرار حظر التجوال قد دفع بالصدر إلى إعادة النظر في حساباته والتراجع عن موقفه السابق في النأي عن الاحتجاجات هذه المرة. وليس مستبعدا أن يكون السبب خوفه من أن تسبقه الأحداث وتتطور النتائج من جهة ما يمكن أن يؤدي إليه لجوء الأجهزة الأمنية إلى العنف من إصرار شعبي على المواجهة فيُحسب هو وتياره على الجهات التي ينادي المتظاهرون بالتخلص منها.
وقال مراقب سياسي عراقي إن مقتدى الصدر لن يكون رمزا للتغيير هذه المرة بعد أن أثبت المتظاهرون بتلقائية إمكانية أن ينظموا أنفسهم بأنفسهم من غير الحاجة إلى زعماء دينيين أو سياسيين انتهازيين، سبق لهم وأن تخلوا عنهم في منتصف الطريق وخذلوهم.
وأضاف المراقب في تصريح لـ”العرب” أن محاولة الصدر ستبوء هذه المرة بالفشل بعد أن كشف عن احتوائه إيرانيا، مشددا على أن متظاهري اليوم الذين رفعوا شعارات أكثر صراحة في عدائها للهيمنة الإيرانية وللعملية السياسية التي تديرها أحزاب موالية لإيران صاروا أشد حذرا من أي محاولة للركوب على موجتهم، يبذلها هذا الطرف أو ذاك من الأطراف التي تحوم حولها شبهات الفساد.
وبات المتظاهرون الشبان يتجمعون بشكل تلقائي في مناطقهم بعد أن أقفلت الطرقات أمامهم للوصول إلى مركز العاصمة، متحدين الهجمات العنيفة التي تقودها الميليشيات، والتي تخطط لرفع وتيرة التصادم مع القوات الأمنية ودفع الحكومة إلى التعامل بقسوة مفرطة.
وقال شهود عيان لـ”العرب” إن جزءا من خطط إيران للسيطرة على التظاهرات يتمثل في نشر عناصر من العصائب والكتائب والخرساني داخل الأزقة، يرتدون الزي المدني، وهم مسلحون بالسكاكين، يسألون كل شخص يقابلونه عن وجهته ويفتشون هاتفه، ويطلبون منه العودة إلى منزله، ومن يعارض ذلك يتم الاعتداء عليه، وهو ما يفسر الإعلان عن تسجيل العديد من إصابات بجروح بين صفوف المتظاهرين.
وأفاد الشهود أن عناصر مدسوسة أحرقت، أمس، سيارة إسعاف في ساحة التحرير وسط بغداد، الأمر الذي دفع المتظاهرين أنفسهم إلى إطفاء النيران، واصفين الأمر بفعل فاعل.
ونجحت تجمعات المتظاهرين في غالبية أحياء بغداد في سد الطرقات وحرق إطارات السيارات في موجة احتجاج غير معهودة بمناطق مثل الأعظمية والعطيفية وشارع حيفا غرب ووسط بغداد والزعفرانية في شرقها.
وتحدثت أوساط إعلامية عراقية عن حملة ترهيب ضد الصحافيين الذين يغطون التظاهرات ميدانيا، وأنباء عن صدور أكثر من خمسين مذكرة اعتقال ضد صحافيين، تم تنفيذ عدد منها في بغداد والنجف والبصرة، في وقت لجأ فيه مكتب رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي إلى توزيع البيانات على الصحافيين بطريقة الرسائل النصية بعد انقطاع الإنترنت.
وفي سياق المناورة الهادفة لامتصاص الغضب، أعلنت هيئة مكافحة الفساد (حكومية) أنها قررت إقالة ألف موظف حكومي إثر الاحتجاجات في إشارة إلى البدء بمحاربة الفساد الذي هو مطلب رئيسي في مختلف الاحتجاجات التي شهدها العراق.
وتوقع مصدر سياسي عراقي أن تتدخل مرجعية النجف بقوة هذه المرة، بانتظار ما تسفر عنه خطبة الجمعة، التي تمثل المرجع الأعلى علي السيستاني، بالتوازي مع الحديث عن التحضير لتظاهرة كبيرة في ساحة التحرير ببغداد عصر الجمعة، تتوجه بعدها إلى البوابات القريبة من المنطقة الخضراء.
وقال المصدر إن غالبية العراقيين يترقبون موقفا حاسما من المرجعية يتمثل في إدانة حكومة عادل عبدالمهدي بعد استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين وربما المطالبة بنقل السلطة.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية قد عبر عن ثقة حكومة بلاده بأن تعمل الحكومة العراقية مع الأحزاب والمرجعيات على تهدئة الأوضاع. لكن هذه الدعوة إلى التهدئة لم تمنع الإيرانيين من اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع امتداد هذه الاحتجاجات إلى بلادهم بشكل من الأشكال.
وحثّت الخارجية الإيرانية، الخميس، مواطني بلادها على إرجاء زياراتهم إلى العراق لإحياء مناسبة أربعينية الحسين بن علي، التي توافق الـ19 من أكتوبر الجاري، “إلى حين استقرار الظروف هناك”.
كما أعلن التلفزيون الإيراني أن الاضطرابات في العراق دفعت السلطات بإيران إلى إغلاق معبر حدودي من المنتظر أن يستخدمه مئات الآلاف لزيارة أماكن شيعية مقدسة هذا الشهر.
وقال مسؤول إيراني كبير في شؤون الزيارات الدينية للتلفزيون الرسمي إنه تقرر إغلاق معبر خسروي لكن المعابر الأخرى ظلت مفتوحة وذلك قبل إحياء أربعينية الإمام الحسين في مدينة كربلاء بجنوب العراق.
ويعاني العراق الذي أنهكته الحروب، انقطاعا مزمنا للتيار الكهربائي ومياه الشرب منذ سنوات، ويحتل المرتبة 12 في لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم، بحسب منظمة الشفافية الدولية.
وتشير تقارير رسمية إلى أنه منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، اختفى نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة، أي أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق.
العرب