ليست المرة الأولى التي تشهد فيها المدن العراقية انتفاضة شعبية واسعة في ظل سيطرة القوى الطائفية التابعة بشكل أو بآخر لنظام ملالي طهران. وليست هي المرة الأولى التي تشهد فيها انتفاضة العراقيين ردا قمعيا منفلتا تشنه أجهزة القمع التابعة للنظام، كما أنها ليست المرة الأولى التي تنخرط فيها أطراف ميليشياوية تابعة للحرس الثوري الإيراني في عمليات القتل والاغتيال وملاحقة الناشطين حتى منازلهم للتخلص منهم.
وكذلك ليست هي المرة الأولى التي يرتفع فيها هتاف: بغداد حرة حرة، إيران بره بره، في المظاهرات التي عمت مدن الجنوب والوسط وكذلك العاصمة بغداد، حيث أحرق العلم الإيراني أكثر من مرة خلال التظاهر.
لكنها ربما هي المرة الأولى التي ينزل فيها العلم الإيراني عن مبنى السفارة الإيرانية في بغداد ليرفع العلم العراقي مكانه. ولهذه العملية رمزية كبرى تؤكد أن الشعب العراقي يعتبر الوجود الإيراني في العراق احتلالا يجب التخلص منه، وهذا ما يؤرق أركان نظام الملالي في طهران وربما يدفعهم إلى ارتكاب جرائم لا تقل دموية عمّا ارتكبوه في سوريا، بحق الشعب العراقي التواق إلى التخلص من كل ما أوجده الوجود الإيراني في العراق من كوارث وضعت غالبية الشعب الإيراني تحت خط الفقر ودمرت كل المرافق الخدمية وتركت العراق بلا زراعة وبلا صناعة، وبلاد الرافدين بلا ماء وثاني أغنى بلد بموارد الطاقة في العالم بلا كهرباء.
صحيح أن العراقيين ينتفضون ضد قوى فاسدة مسيطرة منذ خمسة عشر عاما، نهبت المالية العامة ووضعت العراق في أعلى قائمة الدول الأكثر فسادا، وتركت أبناء الشعب العراقي بلا عمل فعمت البطالة والفقر، وأهملت القطاعات الصحية والتربوية وأفسحت المجال للميليشيات الإجرامية فغاب الأمن وتراجعت العدالة، لكنهم بحسهم الطبيعي يدركون أن هذه القوى ما كانت لتسيطر وتمارس فسادها وتدميرها للوطن وللمجتمع العراقيين لولا تبعيتها لنظام ملالي طهران وحمايتها من قبل الحرس الثوري التابع له. لذلك رأينا المتظاهرين قبل عام في البصرة ومحافظات الجنوب يرددون الهتاف ذاته: العراق حرة حرة، إيران بره بره. حيث أحرقت القنصلية الإيرانية في البصرة وعدد من مكاتب الأحزاب والميليشيات الملحقة بالحرس الثوري.
وحيث نعلم أنه أثناء وعقب مظاهرات البصرة والجنوب في العام الماضي، شنت تلك الميليشيات والمجموعات التابعة لإيران حملة تصفيات واغتيالات طاولت العديد من الناشطين والإعلاميين وسواهم في مدن الجنوب، لذلك يخشى أن تمارس تلك المجموعات عمليات أوسع مدى وأكثر دموية بحق الناشطين العراقيين خلال الانتفاضة الحالية بعد أن اغتيل الناشط ورسام الكاريكاتير العراقي حسين عادل وزوجته سارة صباح الخميس الماضي على يد مجهولين اقتحموا منزلهما في مدينة البصرة بعد أن كانا قد شاركا في إسعاف المصابين في تظاهرة مساء الأربعاء، أي قبل اغتيالهما بساعات.
وكنا قد شهدنا تدخلا مباشرا لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني أثناء حراك البصرة ومدن الجنوب العراقي العام الفائت حين زار بغداد وأوعز إلى الحكومة العراقية بضرورة وقف التظاهرات، واليوم تفصح الحكومة الإيرانية عن موقفها حين “تعرب عن أسفها للاضطرابات في المدن العراقية وتقول إن الحكومة ببغداد لن تسمح باستمرار بعض التحركات التي يستغلها أجانب”.
أما المسؤولون العراقيون الذين يعترفون بأحقية مطالب المتظاهرين، فيصرون على أن هنالك مندسين يعملون على حرف التظاهرات عن أهدافها. فقد تم تعطيل شبكة الإنترنت في عموم البلاد ثم أعلن رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي منع التجول في بغداد اعتبارا من الساعة الخامسة فجر الخميس وحتى إشعار آخر! ثم منع التجول في محافظة ذي قار، ليطل الساعة الثالثة من فجر الجمعة بعد ثلاثة أيام من المظاهرات التي كسرت حظر التجول المعلن وشهدت عمليات قمع واسعة وعنفا مفرطا من قبل الأجهزة الأمنية وملاحقات ومداهمات من قبل مسلحين ملثمين ضد المتظاهرين حصدت أكثر من أربعين قتيلا ومئات المصابين حتى صباح الجمعة، ليعلن عن إنجازات حكومته في مجال مكافحة الفساد وتأمين السكن والكهرباء وفرص العمل للخريجين!
خطاب عبدالمهدي لم يحرك في النشطاء والمتظاهرين والمتضامنين سوى السخرية والاستمرار في التظاهر وتوسيع رقعته ليصل يوم الخميس إلى طريق مطار بغداد، ردا على الجرائم المتواصلة بحقهم رغما عن تصريحات المسؤولين بدستورية الحق في التظاهر.
تأتي الانتفاضة العراقية اليوم في ظل الحصار المطبق على إيران، وباعتبار أن العراق هو المتنفس الوحيد المتبقي لها، تشن وسائل الإعلام التابعة لها حملة مسعورة مثقلة بالأكاذيب على هذه الانتفاضة وضد ناشطيها. فجريدة “الأخبار” اللبنانية في عددها الصادر الخميس 3 أكتوبر 2019، وعلى لسان الكاتب نور أيوب، اعتبرت أن من حق الشباب العراقيين التظاهر من أجل مطالبهم المحقة لكنها تساءلت عن “المحرك الفعلي” للشارع وعن “التوقيت” الذي تفجرت فيه هذه التظاهرات؛ فتحت عنوان يعبر عن سخط المحور الإيراني من الانتفاضة العراقية “فوضى العراق: واشنطن تبتسم للفتنة”، كتب الخطيب قائلا:
“تشهد المدن العراقية، منذ يومين، تظاهرات شبابية محقة في مطالبها، تفتقد قيادة واضحة تديرها. افتقادٌ يفتح الباب أمام التساؤل عن المحرّك الفعلي للشارع، وماذا يريد في هذا التوقيت تحديداً”.
واستكملت “الأخبار” سرديتها في عددها ليوم الجمعة، فكتبت تحت عنوان: “العراق: ضربة أولى لمخطط الانقلاب”، لتؤكد على طبيعة وشكل المؤامرة المزعومة التي يحيكها متظاهرو العراق ضد محور الممانعة المزعوم، باعتبار أن ما يجري هو من تدبير السفارة الأميركية وبعض العسكريين العراقيين والناشطين الذين يحركون الشارع العراقي.
هذا الأسلوب الممجوج الذي اعتادته أبواق الأنظمة المترنحة تحت وطأة الانتفاضات الشعبية العارمة تستعيده اليوم وسائل الإعلام الناطقة بلسان نظام الملالي في طهران، وكأن الشعوب التي تتعرض للسحق تحتاج محركا خارجيا لتطلق صرختها في وجه القوى الناهبة والفاسدة التي تجعل من حياتها جحيما في حين أنها تعيش فوق بحر من الخيرات والثروات التي تتعرض للنهب جهارا نهارا من قبل من تربعوا على كراسي السلطة بفضل قوى الاحتلال، وجمعوا المليارات لقاء التسهيل لتلك القوى أمر السيطرة والتصرف وتشريع أبواب المشرق العربي كله أمام التغلغل الاحتلالي لعصابات القتل شديدة التخلف التي يقودها قاسم سليماني والتي فتكت بالشعب السوري فشردته ودمرت بلاده.
وأخيرا، كل التضامن مع الشعب العراقي الذي ينبغي له أن يتضامن مع نفسه، فلا تترك مدن الجنوب والوسط وبغداد العاصمة الوطنية وحيدة في مواجهة آلة القمع التي يحركها قاسم سليماني، إذ ننتظر من كل المدن والمناطق العراقية الانخراط في انتفاضة شاملة من السليمانية إلى أربيل إلى الموصل وكركوك ومدن الأنبار، ولتكن انتفاضة لكل العراقيين الذين أنهكتهم الطائفية ودمرت بلادهم حروب الأعداء.
العرب