علينا أن نعيش، منذ اليوم، لنشهد مفاعيل الاتفاق النووي الإيراني الذي سينقل المنطقة إلى وضع جديد. ومن دون التسرع في قراءة الارتدادات، يمكن أن يسجل المراقب جملة من الملاحظات التي تتجاوز البديهيات. أولها، أن الاتفاق، في سياقه على المدى البعيد، يؤسس لشراكة بين إيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عمادها التلاقي حول ما تشهده المنطقة من تغيرات وانقلابات، منذ احتلال العراق عام 2003. وتأخذ هذه الشراكة في الاعتبار الزلزال الذي ضرب خارطة الشرق الأوسط، والانهيار الكبير الذي أصابها بعد ظهور غول “داعش”، واستشراء المنظمات الإسلامية المسلحة على الساحة السورية. وكما هو واضح منذ عدة أشهر في العراق، فإن الطرفين على تفاهم وتعاون بصدد مواجهة “داعش”، أساسه الاعتراف الأميركي بدور إيران. وسوف تكشف التطورات أن مشكلة واشنطن الفعلية لم تكن في امتلاك طهران السلاح النووي، وهذا أمر يمكن تلمسه بوضوح من خلال الأجندة الزمنية للاتفاق، وإذا ارتقى التفاهم الحالي بين إيران والقوى الغربية إلى مستويات متقدمة، فإنه يصبح امتلاكها للسلاح النووي من عدمه سيان، طالما أن إيران لم تعد “دولة مارقة”. وبالنسبة للإيرانيين، لم يكن هدف المشروع النووي، في الأساس، التهديد أو الردع، بقدر ما هو الحصول على اعتراف الشرعية الدولية بالدور، وهذا الدور حصلت عليه طهران من خلال الاتفاق، وبالتالي، تراجعت حاجتها للقنبلة النووية. ويمكن القول إن الإيرانيين سجلوا نقطة مهمة، هي أن الغرب اعترف بإيران جزءاً من الحل، بعد أن كان يعتبرها جزءاً من المشكلة.
الملاحظة الثانية أن علاقات الولايات المتحدة وأوروبا مع إيران ستتقدم سياسياً على العلاقة مع منطقة الخليج العربي، وخصوصا السعودية، ويصح القول إن مراجعة واشنطن علاقاتها مع الخليج ساهمت، كعامل إضافي، في الدفع نحو الاتفاق، وقد تمخضت المراجعة التي قام بها باراك أوباما للعلاقات مع الرياض عن فهم جديد للعلاقات بين البلدين، فالولايات المتحدة ستظل صديقة للسعودية، لكنها ليست حليفة بالضرورة، ويمكنها أن تصبح حليفة لإيران من دون أن تصبح صديقة بالضرورة. وهذا أمر ينبع من توجه أوباما للانسحاب الأميركي من المنطقة، الذي يترتب عليه تغيير معادلات أساسية، قامت عليها السياسة الأميركية في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي وسع واشنطن أن تقول إن الانتقال إلى ضفة الخليج الأخرى يعفيها من عبء الاستمرار في الدفاع عن الحلفاء القدامى الذي يظلون يكتسبون مرتبة الصداقة، إلى حلفاء لا تتحمل مسؤولية الدفاع عنهم، بل على العكس هم من يتولون الدفاع عن مصالحها، ويقدمون لها الامتيازات نفسها التي يمنحها الخليج، كالطاقة والأسواق المفتوحة.
تتعلق الملاحظة الثالثة بإسرائيل وغيظها الشديد من توقيع الاتفاق النووي، وأسباب ذلك بعيدة عن المخاوف والتهديدات التي يمثلها امتلاك إيران القنبلة النووية، لأن تل أبيب تعرف أن القنبلة الإيرانية ليست موجهة ضدها، وسبق للرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، أن خفف من حمى التهويل الإسرائيلي، حين قال، إن إيران، في اللحظة التي تقرر فيها توجيه قنبلة ذرية باتجاه إسرائيل تكون قد تلقت من الغربيين الرد المناسب، وهو رد نووي. وعليه، فإن سبب حنق إسرائيل ومخاوفها تنطلق من خشية أن تنافس طهران تل أبيب على لعب دور الشريك في الشرق الأوسط، وقادة إسرائيل يعون أنه يصعب على الولايات المتحدة تسويق إسرائيل في الشرق، في ظل رفض أي حل مع الفلسطينيين، في حين أن إيران لا تحتاج لوساطة واشنطن في المنطقة.
الاتفاق في نهاية المطاف سوف يشكل رافعة لتعويم إيران، وقديماً قال كيسنجر “إيران ليست دولة.. إيران مشروع”.
بشير البكر
صحيفة العربي الجديد