شكل إعلان البيت الأبيض أن القوات الأميركية لن تشارك في العملية التركية شمالي سوريا، وأن هذه القوات بدأت الانسحاب من سوريا، صدمة كبيرة للأكراد، اعتبرها قادتهم “خيانة وطعنة في الظهر”.
ومن قبل ذلك، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ديسمبر/كانون الأول الماضي سحب نحو ألفي جندي أميركي كانوا يدعمون قوات سوريا الديمقراطية.
لم يكن هذان القراران سابقة في تاريخ الأكراد “فهم كل مرة يتعرضون للخيانة من حلفائهم”، كما أنها ليست المرة الأولى التي يتعرضون فيها للخذلان من قبل الأميركيين، كما يقول المختص بالشأن الكردي في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس ديدييه بيليون.
فلطالما اعتبرت الولايات المتحدة وجِهات أخرى الأكراد عنصرا قابلا للتغيير “وما يعتبرونه مصالحهم العليا أهم من دعم الأكراد”.
وكل مرة يتبخر الدعم المادي واللوجستي والعسكري عندما ترى القوى العظمى التي تدعم الأكراد أن السلطات المركزية استعادت زمام السيطرة على الأمور “فهم على الدوام يعتبرون تهديدا لوحدة أراضي الدول التي يقيمون فيها عندما يتسع حكمهم الذاتي”.
إقامة الدولة
يسجل التاريخ لهذا الشعب المتجانس المتناثر حاليا بشكل رئيسي في أربع دول أنه لم يتمكن يوما ما من إقامة دولته، رغم أن المساحة -التي يشكل فيها غالبية ديموغرافية في كل من تركيا وإيران والعراق وأخيرا سوريا- تتجاوز مساحة العراق بعدد سكان يفوق الثلاثين مليونا.
ظهرت كلمة “كردستان” كمصطلح جغرافي أول مرة بالقرن الـ 12 الميلادي في عهد السلاجقة، عندما فصل السلطان سنجار القسم الغربي من إقليم الجبال وجعله ولاية تحت حكم قريبه سليمان شاه وأطلق عليه كردستان.
بدأت المشكلة الكردية بصورة واضحة في العصر الحديث عند اصطدام الدولتين الصفوية والعثمانية عام 1514 في معركة جالديران التي كانت كبيرة وغير حاسمة، وكان من نتائجها تقسيم كردستان عملياً بين الدولتين.
وأدى ظلم الصفويين -إضافة لجهود العلامة ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية- إلى انضمام أكثر الإمارات الكردية إلى جانب الدولة العثمانية.
ولكن عام 1555 عقد الصفيون والعثمانيون اتفاقية ثنائية عرفت بـ “أماسيا” وهي أول معاهدة رسمية بين الدولتين. وتم بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسمياً وفق وثيقة رسمية نصت على تعيين الحدود بينهما.
ومنذ ذلك الحين -وحتى بروتوكول الآستانة عام 1913- كرست كل المعاهدات والاتفاقيات تقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تعقدت المشكلة الكردية يوماً بعد يوم.
سايكس بيكو
بعد هزيمة العثمانيين نهاية الحرب الكونية الأولى عام 1919، خرجت المشكلة الكردية من طابعها الإقليمي إلى الدولي، ودخلت على خطها الدول المنتصرة في الحرب.
وشكلت اتفاقية سايكس بيكو -التي وقعت عام 1916- أرضية لتقسيم تركة الدولة العثمانية، وهو ما شمل كردستان وساهم في تعقيد مشكلتها.
لكن الأكراد تحركوا لاستثمار الظروف الدولية لنيل حقوقهم المشروعة، وبذلوا جهودا مضنية للاستفادة من مبادئ رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون الـ 14 بحق الشعوب في تقرير المصير.
وانطلاقا من مبادي مؤتمر باريس للسلام الذي عقد بعد الحرب، بذل الدبلوماسي الكردي شريف باشا جهدا كبيرة للمطالبة بحقوق الأكراد، وقدم عدة مذكرات لمنظمي المؤتمر لتشكيل لجنة دولية تتولى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكردية.
كما طالب شريف باشا رئيس المؤتمر جورج كليمنصو بأن يمارس نفوذه مع الآستانة لمنع “اضطهاد الشعب الكردي”.معاهد سيفر وأول الغدر
نجح شريف باشا في إدخال بنود تتعلق بالقضية الكردية في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في أغسطس /آب 1920.
وكان من أهم ما تضمنته إلزام الدولة العثمانية بالتخلي عن جميع الأراضي التي يقطنها غير الناطقين بالتركية، كما نصت على تحقيق حل المشكلة الكردية على مراحل تنتهي بالاستقلال.
لكن المعاهدة لم تر النور مع صعود نجم مصطفى كمال أتاتورك وتراجع الغرب عن وعوده للأكراد وتبني وجهة نظر تركيا، وخذلت الدول العظمى هذا الشعب وقضيته.
في السنوات القليلة التي تلت معاهدة سيفر، وجه مؤتمر لندن عام 1921 ضربة إضافية للآمال القومية الكردية، كما فعلت اتفاقية لوزان عام 1923 التي نصت على أن تتعهد أنقرة بمنح معظم سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للكرد فيها، كما لم تجر الإشارة إلى معاهدة سيفر.
بعد الغدر بهم في مؤتمر لندن ومعاهدة لوزان، عادت بريطانيا واستخدمت ورقة الأكراد لتحقيق مصالحها بالمنطقة، وعملت على تحريضهم ضد الحكومة العراقية من أجل إجبارها على توقيع اتفاقية 1922.
ومنحت هذه الاتفاقية العراقيين حكومة ذاتية محلية بينما تولت بريطانيا الشؤون الخارجية والعسكرية، ولما نالت المملكة ما أرادت عادت وتخلت عن الأكراد، وسمحت لحكومة العراق باحتوائهم.
ومع مرور الزمن نضج العمل العسكري والسياسي للأكراد، وتشكلت أحزابهم، وفتحت لهم آفاق جديدة من الحرية والتسامح بعد سقوط الملكية بالعراق وإقامة الجمهورية في يوليو/تموز 1958.
وواصل الأكراد سعيهم نحو حكم ذاتي، ونظموا تمردا مسلحا عام 1961 ضد الحكم الجمهوري بالعراق، والذي قوبل بدعم تركيا وإيران وحتى إسرائيل، وفقا لأستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد سعد ناجي جواد في مقال نشر على موقع الجزيرة نت.
وذكر المقال مبررات كل دولة لدعم هذا التمرد، لكنه في النهاية أشار إلى أن الجميع تخلى عن الأكراد وأوقف دعمه لهم بعد توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران عام 1975.
غزو العراق
خلال فترة الغزو الأميركي للعراق، قدم الأكراد خدمات كبيرة للولايات المتحدة، خصوصا مع عدم تعاون الأتراك في الحملة على العراق. ومقابل تلك الخدمات تولى الجيش الأميركي إعادة ترتيب قوات البشمركة، كما حصلوا على مكاسب سياسية توجت باختيار جلال الطالباني رئيسا للبلاد.
بعد ذلك، ساهم تعمق الخلافات بين الأكراد والإدارة العراقية المركزية -حول امتيازات الحقوق النفطية- إلى دعوة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى استفتاء على الانفصال العام الماضي.
لكن واشنطن قابلت تلك الدعوة بالريبة والشك، ووجد الأكراد -وهم أحد العناصر الأساسية بالحرب على تنظيم الدولة الإسلامية- أنفسهم منفردين في مواجهة غضب السلطة المركزية العراقية، وهو ما عده الأكراد خذلانا جديدا لقضيتهم.
وأخيرا في سوريا، تمكن الأكراد من إقامة حكم ذاتي شمالي البلاد منذ 2011 مستفيدين من الفوضى الناجمة عن الحرب.
لكن في وقت وصلت المعركة ضد تنظيم الدولة إلى خواتيمها، قرر ترامب سحب القوات التي كان من المفترض أن تضمن أمن واستقرار المناطق الكردية.
وتعليقا على ما آلت إليه قضيتهم، يقول الباحث بالمعهد الفرنسي للشرق الأوسط بوريس جيمس إنه وفقا لمنطق الولايات المتحدة والقوى الدولية، “فإن الأكراد مجموعة غير مهمة كونهم غير منظمين جيدا ولا خبرة لهم في إدارة الدول”.
المصدر : الجزيرة + وكالات