يقوم مراقبون إيرانيون بتحليل دقيق للخطاب السنوي للمرشد الأعلى علي خامنئي خلال اجتماع قيادة «الحرس الثوري الإسلامي» لسبب وجيه. فكما هو الحال مع خطابه السنوي في عيد النَّوْروز، غالباً ما يستغل خامنئي اجتماع «الحرس الثوري» كمناسبة لإطلاع الجمهور المحلي والخارجي حول نهجه في الشؤون الدولية. وأشهر هذه الخطابات ذلك الذي ألقاه في عام 2013 – قبل أسابيع قليلة من توصّل طهران إلى اتفاق نووي مؤقت مع «مجموعة الدول الخمس زائد واحد» – حيث أشار إلى أنه لم يعارض “الخطوات الصحيحة والمنطقية في مجال الدبلوماسية”، معلناً أن هذا النوع من “المرونة البطولية” أمر “ضروري ومفيد في ظروف معينة”. وبعد أشهر من الرسائل غير المتناسقة التي أطلقها المرشد الأعلى، اعتبر الكثيرون في إيران وخارجها أن هذا الخطاب هو بمثابة ضوء أخضر ضمني للحكومة للتفاوض بشأن «خطة العمل الشاملة المشتركة».
لقد مرّت ست سنوات منذ التوصل إلى ذلك الحل الوسط، لكن المرشد الأعلى حمل هذه المرة رسالة أكثر عدائية. فقد تركّز الجزء الأكبر من خطابه في 2 تشرين الأول/ أكتوبر على التذكير من جديد بإنجازات «الحرس الثوري الإسلامي» وطرح أفكار قديمة وحديثة لتعزيز إمكاناته – وهو موضوع ينذر بالسوء نظراً إلى مدى مساهمة عناصر «الحرس الثوري» ووكلائهم في زعزعة استقرار الشرق الأوسط حتى الآن. وعند الحديث عن الأزمة المستمرة مع الولايات المتحدة واحتمالات إجراء محادثات جديدة، كرّر خامنئي وجهة النظر التي أعرب عنها في الأشهر الأخيرة وهي – أن سياسة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها واشنطن مصيرها الفشل. وشدّد على أن السياسة الأمريكية لن تُخضع إيران، ولا تسبب سوى “مشاكل” لأمريكا.
إحباط مبادرة الأمم المتحدة برعاية روحاني وماكرون
في الليلة التي سبقت خطاب المرشد الأعلى خلال اجتماع قيادة «الحرس الثوري الإسلامي»، ذكرت مجلة “بوليتيكو” أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كاد ينجح في التوصل إلى اتفاق تسوية بين الرئيسين ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني خلال الاجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن إيران انسحبت ورفضت العرض. وأشار روحاني إلى خطة ماكرون خلال اجتماع للحكومة في طهران عُقد قبل خطاب خامنئي بفترة قصيرة، موضحاً أن الاقتراح الفرنسي – الذي زُعم أنه تضمن رفع كافة العقوبات الأمريكية المفروضة منذ عام 2017 – “كان مبنياً على مبادئنا” التي وصفها بأنها تتمحور حول إلغاء العقوبات الأمريكية والسماح “لإيران بممارسة أنشطتها التجارية بحرية”. وحمّل واشنطن مسؤولية فشل الاقتراح، قائلاً إنه قد انهار بسبب التناقضات في المواقف الأمريكية. وبعد ذلك، وعد بأنه سيكون مستعداً “لأي نوع من التضحية الذاتية” من أجل الحفاظ على حقوق الأمة – وهذه نسخته من “المرونة البطولية” التي يعتمدها خامنئي.
وخلال خطاب المرشد الأعلى بعد بضع ساعات، ادّعى خامنئي أنّ محاولات أوروبا ترتيب اجتماع بين الرئيسين هي جزء من مخطط أمريكي لتكوين “صورة رمزية لاستسلام إيراني”. وبالفعل، رغم انتقادهما المشترك لواشنطن، ليس من الواضح ما إذا كان خامنئي وروحاني متفقان على الهدف فيما يتعلق بالجدول الزمني للمحادثات الجديدة أو شروطها. فمنذ انسحاب إدارة ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في العام الماضي، انتقد المرشد الأعلى مراراً وتكراراً روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، متهماً إياهما بأنهما وقعا ضحية خداع من قبل الأمريكيين خلال المحادثات النووية الأصلية، ومشيراً إلى أنه ما كان ينبغي على إيران التفاوض مع إدارة أوباما أساساً. وإذا أمر خامنئي الحكومة برفض اقتراح ماكرون، فلن تكون هذه المرة الأولى التي يُقدم فيها على مثل هذه الخطوة – فعلى سبيل المثال كان قد أحبط اتفاقاً تفاوض حوله الرئيس محمود أحمدي نجاد مع الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا في عام 2009، والذي كان من شأنه تأمين تصدير الجزء الأكبر من اليورانيوم الإيراني المنخفض التخصيب مقابل وقود للمفاعلات.
المقاومة كإستراتيجية للتفاوض
يبدو أن أمراً واحداً يتفق عليه روحاني وخامنئي وهو أن “المقاومة” الإيرانية ضد الولايات المتحدة وأوروبا أدّت إلى تحسين نفوذ البلاد خلال التفاوض بشأن إطار المفاوضات المستقبلية. وكما قال روحاني مؤخراً، “لم يكن أحد ليأتي لمقابلتنا في نيويورك” لو لم تتخذ إيران تدابير مجابهة مثل إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار في وقت سابق من هذا العام وتطوير البرنامج النووي.
وبالمثل، أكدت الافتتاحيات الأخيرة في المجلة الأسبوعية الصادرة عن مكتب خامنئي على الحاجة إلى زيادة تحسين موقف طهران قبل استئناف المحادثات، موضحة أن إيران لا يجب أن تتفاوض من موقف ضعف. ووفقاً لذلك، ذكرت المقالات أنّ “اليوم ليس الوقت المناسب” للعودة إلى طاولة المفاوضات.
وانطلاقاً من طريقة التفكير هذه، توجّه خامنئي إلى “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية” خلال خطابه في 2 تشرين الأول/أكتوبر موعزاً إلى مسؤوليها بمواصلة خفض التزام البلاد بالاتفاق النووي إلى حين “تحقيق النتائج المرجوة”. وقد سبق لإيران أن اتخذت ثلاث خطوات تهدد «خطة العمل الشاملة المشتركة» أو تنتهكها، وهي: تجاوز كمية اليورانيوم المنخفض التخصيب الذي يُسمح لها بتخزينه؛ وزيادة مستوى التخصيب إلى ما يتخطى 3.67 في المائة؛ واستئناف بعض عمليات البحث والتطوير لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة. ووفقاً لـ “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية”، سيتخذ النظام خطوة رابعة في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، قد تشمل استئناف التخصيب في منشأة فوردو الجبلية التي تتمتع بحماية كبيرة.
وقد برزت ذهنية مماثلة في خطاب النظام حول “المقاومة” الإقليمية. ففي الأسبوع الماضي، ظهر قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني على موقع خامنئي الإلكتروني في أول مقابلة مصوّرة له بالفيديو على الإطلاق، أثنى خلالها على “انتصارات” إيران وحلفائها ضد إسرائيل والولايات المتحدة على مرّ السنين. كما أُجريت مقابلة مع الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله تحدث فيها عن المواضيع نفسها. أما قادة «الحرس الثوري»، فاستغلوا اجتماعهم السنوي للتركيز على قوة المقاومة والتحذير من أن أي هجوم على إيران سيواجه برد عنيف، دون قيود من حيث حجم الرد أو الأهداف. وبعد ذلك، حثّهم خامنئي على حمل راية المقاومة إلى خارج حدود الشرق الأوسط، قائلاً “أحياناً يكون العمق الاستراتيجي للبلاد أكثر أهمية حتى من الحاجات الأكثر إلحاحاً”، وأنّب الإيرانيين الذين يرددون هتاف “لا لغزة، لا للبنان” عند انتقادهم تدخلات النظام في الخارج.
دولة “طبيعية” أم دولة ثورية؟
كما كان عليه الحال في الماضي، يبدو أن قلق خامنئي الأكبر بشأن التعاون مع الولايات المتحدة يكمن في التداعيات المحتملة لمثل هذا التواصل على هوية إيران وطبيعة “الثورة”. ووفقاً لخطابه أمام «الحرس الثوري»، تصرّ واشنطن على تخلي إيران عن طابعها الثوري وتحوّلها إلى “دولة طبيعية” تتوافق مع النظام العالمي الأمريكي.
وربما يدرك خامنئي ما قد يتطلبه الأمر لمواصلة التصدي لهذا التغيير، لذلك أنهى خطابه بملاحظة متفائلة، معرباً عن أمله على ما يبدو في إقناع الشعب بأن الأمور ستكون على ما يرام إذا تمكّن من مواصلة تحمّل الضغوط الأمريكية لفترة أطول. وبعد أن ادّعى بأنّ الاقتصاد ينمو بطريقة “ستؤثر تدريجياً على حياة الناس”، ذكر أن سياسة واشنطن الحالية ليست سوى مشكلة تكتيكية قصيرة الأجل. حتى أنّه جادل بأنّ الضغط الأمريكي سوف يساعد إيران استراتيجياً في النهاية من خلال كسر اعتماد البلاد على عائدات النفط – وهو هدف لم تتمكّن الحكومة قط من تحقيقه بمفردها.
وقد يكون أكبر مصدر للتفاؤل في طهران هو اعتقادها بأن واشنطن وأوروبا تتوقان إلى استئناف المفاوضات. وقد سلّط روحاني الضوء على هذه النقطة في خطابه أمام مجلس الوزراء، كما أن موقع خامنئي الإلكتروني أكّد على كيفية استمرار الرئيس ترامب في طلب فتح المحادثات فقط ليتم رفضها مراراً وتكراراً من قبل المرشد الأعلى. وقد يدفع هذا التصوّر بطهران إلى رفع معاييرها لاستئناف المحادثات، ويرسّخ قناعتها بأن استراتيجية المقاومة تؤتي ثمارها.
معهد واشنطن