للمرّة الثالثة خلال 18 شهرا، يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نيته سحب قواته من شمال شرق سورية، تاركا حلفاءه الأكراد مكشوفين أمام عملية عسكرية تركية محتملة تستهدفهم. في المرتين السابقتين، تراجع ترامب عن قراره، ولكن الظروف تبدو هذه المرة مختلفة، مع ضرورة إبقاء كل الاحتمالات مفتوحةً مع ترامب.
يعود قرار الانسحاب الأول من سورية إلى إبريل/ نيسان 2018، عندما قرّر ترامب نسف أسس الاستراتيجية التي وضعها وزير خارجيته السابق، ريكس تيلرسون، ومحورها الاحتفاظ بقوات أميركية في شمال شرق سورية لتحقيق أربعة أهداف رئيسة: منع انبعاث تنظيم الدولة الإسلامية، منع إيران من الحصول على ممر بري من العراق عبر سورية وصولا إلى لبنان، الضغط للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وإعادة توطين اللاجئين. لكن تعيين جون بولتون مستشارا للأمن القومي في مارس/ آذار 2018، بدلا من هيربرت مكماستر، أفسد عليه الأمر، إذ أقنعه بولتون بضرورة البقاء في سورية والالتزام بأهداف استراتيجية تيلرسون، خصوصا بعد أن انتزع تعهدا من دول خليجية بتمويل إقامة القوات الأميركية، منها ثلاثمائة مليون دولار من السعودية.
ولكن ترامب عاد وقرّر الانسحاب مجدّدا بعد مكالمة هاتفية أجراها معه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ديسمبر/ كانون الأول 2018، وذكرت وسائل إعلام أميركية أن ترامب قال خلالها لأردوغان “أنا خارج، وهذه سورية لك!”. وقد أدى هذا القرار حينها إلى استقالة وزير الدفاع، جيمس ماتيس، والمبعوث الرئاسي لقوات التحالف في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، بريت ماكغورك. ولكن مرة أخرى أدت الضغوط الداخلية والخارجية إلى تراجع ترامب عن قراره الانسحاب.
يوم الأحد الماضي، وبعد مكالمة هاتفية جديدة مع الرئيس التركي، أردوغان، قرّر ترامب للمرة الثالثة سحب قواته من سورية، والسماح لتركيا بإنشاء المنطقة الآمنة “الموعودة”، مبرّرا قراره بأن أردوغان تعهد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، والتعامل مع أسرى هذا التنظيم الذين ترفض دول أوروبية استردادهم، على الرغم من أنهم مواطنوها. ولمنع عرقلة قراره، اختار البيت الأبيض إصدار بيان بشأن الاتفاق مع تركيا عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا بتوقيت واشنطن، لتستفيق العاصمة في الصباح على وقع قرار سحب القوات الأميركية من مواقعها على الحدود السورية – التركية.
وكما في كل مرة، أثار قرار ترامب عاصفةً من الانتقادات من داخل حزبه وبين الحلفاء الأوروبيين، ما دفعه إلى إصدار تحذير لتركيا أنه سيدمرها اقتصاديا، إذا تجاوزت حدود الاتفاق معه. مع ذلك، يرجّح أن يمضي ترامب، هذه المرة، بقرار الانسحاب، فالرجل لا يبدو عابئا بشيء، خلا المعركة التي يخوضها ضد خصومه السياسيين في الداخل، فيما يسعى إلى إضافة مزيد من النقاط إلى رصيد حملة إعادة انتخابه، والتي يبدو أنه مستعد لفعل أي شيء من أجل كسبها، كما تبين من تفاصيل مكالمته مع الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، بشأن منافسه الديموقراطي، جو بايدن.
وسوف تمنح إعادة القوات الأميركية من سورية ترامب مكسبا صغيرا، يحتاجه بعد سلسلة من الإخفاقات في سياسته الخارجية، إذ لم يتمكّن من انتزاع اتفاق مع كوريا الشمالية، بعد ثلاثة لقاءات قمة مع رئيسها، كما أن سياسته المتشدّدة مع إيران تحتاج وقتا أطول، حتى تعطي نتائج، أما الصين فلم تعد مستعجلةً لإبرام اتفاق تجاري مع واشنطن، بعد أن أدركت مدى حاجة ترامب إليه انتخابيا.
في السياق نفسه، تدور في واشنطن أحاديث عن علاقة خاصة تربط ترامب بالرئيس أردوغان، والتي بدت واضحة في أكثر من مناسبة، كان آخرها قمة الدول العشرين في اليابان في يونيو/ حزيران الماضي، وفي معالجة ترامب قضية شراء تركيا صواريخ إس 400 الروسية. هذه العلاقة، بحسب وسائل إعلام أميركية، تستمد قوتها من أحد أكبر ممولي حملة ترامب الانتخابية، وهو رجل أعمال تركي مقرّب من أردوغان.
ومع تفرّد ترامب بالقرار، بعد طرده المعارضين في إدارته، سوف نشهد، على الأرجح، كلما اقتربنا من موعد الانتخابات الرئاسية، مزيدا من القرارات، عنوانها العام الانسحاب من شؤون العالم، أما الحلفاء المساكين فقد بات عليهم أن “يدبّروا رأسهم”، فالعم سام لم يعد يلق بالًا لهم، ولا عاد مهتما بمصيرهم، خصوصا إذا استوفى غرضه منهم.
العربي الجديد