أعلنت تركيا أمس بدء عملية عسكرية شمال شرق سوريا، والعملية ستكون ـ حسب الصحف التركية ـ في حدود 30 إلى 40 كم داخل الأراضي السورية وبامتداد 120 كم، وقد حدد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ظهر أمس أهداف العملية، بأنها قتال «تنظيم الدولة الإسلامية والوحدات الكردية وحزب العمال الكردستاني».
الطرف الأساسي المعنيّ بالهجوم، والمتمثل بالتشكيلات العديدة الأسماء التابعة لحزب العمال الكردستاني التركي، أعلن من جهته النفير والتجنيد العامّ وأطلق ستة صواريخ من مدينة القامشلي سقطت في قلب مدينة نصيبين التركية الحدودية، وبذلك أعاد فعليّا رسم خريطة الصراع الأولى، والتي هي نزاع تاريخي بين طرفين ضمن الجغرافيا السياسية لتركيا الحديثة.
كان السماح لحزب العمال بالامتداد في سوريا بعد عام 2011 نتيجة لصفقة أقامها النظام السوري مع الحزب التركيّ يضمن فيها سيطرة قادته الموجودين في جبل قنديل في العراق، على أكراد سوريا لفصلهم عن الحراك الشعبي السوري العامّ وتوظيف عدائهم التاريخي للدولة التركية في خططه لمواجهة التحديات السياسية والعسكرية الكبرى التي فرضها الحراك السياسي والعسكري للسوريين ضد نظام بشار الأسد.
بقيت هذه الصفقة قائمة إلى أن لاحت فرصة كبرى صنعها انزياح الجغرافيا السياسية للأزمة العراقية والتي أنتجتها مفاعيل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والسيطرة الإيرانية التي تبعته، وتفكيك الدولة العراقية وتسريح جيشها، وحملات الإقصاء الكبرى تحت يافطة «اجتثاث البعث»، ثم انفلات العنف الطائفيّ بين الشيعة والسنّة، وظهور تنظيمي «القاعدة» وخلفه «الدولة الإسلامية»، الذي تمكن من السيطرة على مدينة الرقّة السورية عام 2013 وتحوّل مع السيطرة على الموصل عام 2014 إلى بعبع كبير للعالم.
بعد محاولات فاشلة من إدارة باراك أوباما لتوظيف فصائل المعارضة السورية في قتاله (والامتناع عن قتال النظام السوري) وجد الأمريكيون والأوروبيون في حزب العمال الكردستاني، وتفريعاته، الأداة المناسبة لقتال التنظيم، أما حزب العمال فوجد في ذلك الفرصة التي ينتظرها لتحقيق حلم «الدولة الكردية» المنشودة، فأعد دستورا ينص على اعتبار القامشلي عاصمة واعتماد علم للإقليم وتشكيل مجلس تنفيذي وبرلمان ووزارات واعتبار «قوات سوريا الديمقراطية» قوات الدفاع المسلحة في «الفدرالية الديمقراطية لروج آفا»، وهي التسمية المعتمدة لدولة «غرب كردستان».
زحزحت محاولات الدولة الافتراضية لحزب العمال الكردستاني إذن (كما فعلت «الدولة الإسلامية») معادلات الجغرافيا السياسية للمنطقة، وإذا كانت تعبّر عن طموح كردي لدولة تكسر خطوط الحدود السورية والتركية والعراقية (وربما الإيرانية)، فإن الرفض العالمي الذي قوبل به إعلان «استقلال» كردستان العراق عام 2017، ثم قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا، دليلان على أن المطلوب من الحزب في سوريا كان آنيّاً وظرفيّا وقابلا للسقوط.
كانت محاولة حزب العمال تأسيس دولة كرديّة حلما مبنيا على الخلاص من مظالم تاريخية كبيرة، لكن ارتباط فرصته التاريخية بظهور «الدولة الإسلامية» يعني أن الاقتراب من إسقاط ذلك التنظيم الرهيب كان اقترابا أيضا من إسقاط الحلم بالدولة أيضا، ويبدو أن ما جاءت به رياح الانتهازية السياسية لصفقات الحزب مع النظام السوري وأمريكا ستذهب به رياح انتهازية أخرى.
القدس العربي