أن يخرج العراقيون في مظاهراتٍ حاشدة، تطالب بالكرامة والعدالة الاجتماعية والتنمية وإسقاط الفساد والطائفية، فذلك يعني، من دون مبالغة، نهايةَ نظرية المؤامرة التي طالما ارتكن إليها كثيرون في تفسير ثورات الربيع العربي وتبيان أسبابها المختلفة، فمنطق الأشياء يقول إن حروب الخليج الثلاث التي كان العراق مسرحا لها إبّان عهد صدام حسين، والاحترابَ الطائفيَّ الذي شهده بعد الاحتلال الأميركي، وتبعات سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة منه بين سنتي 2014 و2017، مع ما أحدثته تلك المقتلة المفتوحة من شروخ نفسية واجتماعية وطائفية عميقة، ذلك كله كفيل بثنْي العراقيين عن الخروج للتظاهر، فلا شيء يفوق في أهميته، بالنسبة لهم، الأمن والسلم الأهلي.
ولكن هذا الإرثَ الثقيل من التقتيل والدمار والإرهاب الأعمى الذي كابده العراقيون، طوال السنوات الماضية، يكاد لا يمثّل شيئا، بالنسبة لهم، أمام الفساد المهول الذي ينخر مختلف مفاصل الدولة العراقية على الرغم من عائدات النفط المرتفعة. ويبدو أن النخب السياسية قد استغلت، بخبثٍ مضمرٍ، تطلع الشعب العراقي إلى العيش في سلام وأمن بعد طول معاناة مع شتى أنواع الحروب، وحَوّلتْه إلى مورد حيوي في مساومة سياسية رخيصة غير معلنة؛ الأمن والسلم الأهلي لقاءَ السكوت على هذا الفساد والتطبيع معه بشكل أو بآخر، سيما بعد نجاح الحكومة في دحر تنظيم الدولة الإسلامية وتفكيك ما تبقى من خلاياه.
تحول الفساد في العراق، حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية، إلى سياسة ممنهجة في القطاع العام، شلّت مختلف القطاعات الاقتصادية، في تجاوزٍ صارخٍ للوضع الاجتماعي والمعيشي لفئات واسعة من العراقيين، في ظل ارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتردّي الخدمات العامة الأساسية، وتفاقم عبء المديونية.
كان العراقيون شاهدين على فضائح فساد مدويّة تورّط فيها وزراء وبرلمانيون ومسؤولون كبارٌ في الدولة، وقد شكّل ذلك صدمةً للرأي العام. ولعل ذلك ما يفسّر اختراق الاحتجاجات الحالية مختلف أطياف المجتمع العراقي ومكوناته، في رسالة إلى النخب السياسية، مفادها بأن الخطاب الطائفي والمذهبي استنفد صلاحيته، وأن تسخيره وإعادةَ إنتاجه لن يُجدي نفعا في ضوء تشكل بوادر وعي جديد بأهمية إعادة بناء الوطنية العراقية، بعيدا عن المحاصصة الطائفية.
عجّل هذا الوضعُ باندلاع شرارة الحراك الشعبي، خصوصا في غياب مؤسسات اجتماعية وسياسية قادرة على القيام بدور الوساطة بين المحتجين وهذه النخب، والحؤول، بالتالي، دون الوصول إلى نقطة اللاعودة. وقد تراجع تأثير هذه المؤسسات بشكلٍ لا يخلو من دلالة أمام تزايد نفوذ التنظيمات الشيعية المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. وكان لافتا إحراق المحتجين في العراق مقار أحزاب وتنظيمات ومليشيات، ما يحيلُ على رفض دال لكل أشكال التنظيم السياسي والحزبي التقليدي.
لا يُربك الحراك العراقي النخب العراقية فقط، بل تكاد ارتداداته تصل إلى معظم الجغرافيا العربية التي تنوء تحت عبء الاستبداد والفساد، الأمر الذي يُضيق الخناق أكثر على النخب العربية التي ما زالت مصرّةً على بيع شعوبها أوهاما بائرةً. وينعطف سقوط عشرات القتلى والجرحى في الانتفاضة العراقية بنا، حتما، صوب المشترك بين النخب العربية، إذ ينعدم الحس التاريخي لديها، وتكاد لا تستفيد من أخطاء غيرها وعثراتهم، فهي تظن أن الإفراط في استعمال القوة كفيل بترهيب المحتجين وإعادة الأمن والاستقرار إلى الشارع. يعني ذلك أن الأمر يتعلق بثقافةٍ سياسيةٍ ترى السلطة مغنما وجاها ومنفذا نحو امتيازاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا حصر لها. ولذلك لا يبدو مستغربا لجوء الحكومة العراقية إلى الخطاب المكرور الذي يربط أي حراك شعبي بمؤامرةٍ تستهدف الدولة والنظام.
أضحى زواج الاستبداد بالفساد عنوانا بارزا في السياسة العربية، إلى درجة أن حكاما لا يتورّعون عن الاعتراف بفسادهم والتبجّح به، كما عبد الفتاح السيسي الذي اعترف، أخيرا، ببناء قصور رئاسية في تحدٍ لمشاعر المصريين ومعاناتهم.
كثيرةٌ هي دلالات الحراك العراقي، إذا ما استحضرنا السياق الإقليمي العام، حيث الاحتجاجات مستمرّة، بدرجاتٍ متفاوتة، في أكثر من بلد عربي. وفي ذلك رسالة أخرى إلى محور الثورة المضادة الذي تختلط الأوراق أمامه، في المنطقة، بشكل غير مسبوق.
العربي الجديد