تعيش الديمقراطيات الغربية حالة أزمة، حيث يتداعى النظام العالمي الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية دون إدراك حقيقة ما يجري أو ما ينبغي فعله حيال ذلك.
لحسن الحظ، يمكن لبعض الأدب والفلسفة العظيمة القديمة أن تساعدنا على فهم ذلك، وربما على إيجاد مخرج من هذه الفوضى.
وقال الكاتب مايكل هوسكيلر في مقاله الذي نشره موقع “كونفرسيشن” الأسترالي، إنه “قبل كل شيء علينا التخلي عن فكرة أن العالم منظم بطريقة عقلانية”.
وقد جادل الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور بأن جوهر كل شيء -وهذا يشملنا- ليس المنطق، وإنما الإرادة العمياء.
وفي أعماله فسّر سبب عيش العالم في مثل هذه الوضعية المؤسفة، وكيف نستمر في إفساد الأمور من خلال خوض حروب لا داعي لها، وإلحاق الكثير من المعاناة بأنفسنا وببعضنا البعض.
وحسب هرمان ملفيل مؤلف رواية “موبي ديك”، فإن الحياة مجرّد مزحة فظة مارستها الآلهة علينا، وإن أفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم وتشارك اللعبة والضحكات معهم. ومن خلال إعلان الفيلسوف فريدريك نيتشه عن موت الإله، أصبحنا أحرارا في فعل ما نرجوه لنجعل من إرادتنا مقياس كل الأشياء.
في المقابل، وصف الفيلسوف والروائي الفرنسي ألبير كامو العالم بأنه مكان غريب لا يهتم كثيرًا باحتياجاتنا ورغباتنا الإنسانية.
واعتقد أرسطو قديما أن التفكير الفلسفي هو كمال الحياة البشرية. ربما بالغ قليلا، ولكن يجب أن لا يكون هناك أي شك في القيمة التي يضيفها التفكير الفلسفي إلى حياتنا وتفسيرها.
الشاعر الملحمي والروائي الأميركي هيرمان ملفيل ولد بمدينة نيويورك في غرة أغسطس/آب 1819 (مواقع التواصل)
الشاعر الملحمي والروائي الأميركي هيرمان ملفيل ولد بمدينة نيويورك في غرة أغسطس/آب 1819 (مواقع التواصل)
الحاجة إلى الفوضى
أشار الكاتب إلى أنه داخل هذا العالم المجنون يُتوقع أن يتسم الناس عموما بالجنون أيضا، وهذا هو الأمر الثاني الذي نحتاج إلى استيعابه. إننا نميل إلى افتراض أن الناس يفعلون أشياء ويرغبون في أشياء أخرى لأسباب وجيهة. ولكننا في أحيان كثيرة نسعى وراء أشياء لا معنى لها نظرا لأنها تكون ضارة بشكل واضح. وعندما يحاول شخص ما التفكير بعقلانية معنا، ويشير إلى جميع الأخطاء الواقعية والمنطقية التي نرتكبها، فإننا نتجاهله ونستمر فيما عهدناه.
إن هذا العالم محير للغاية لو أننا حيوانات عاقلة حقا، ولكننا لسنا كذلك. بالتأكيد نحن قادرون على أن نكون عقلانيين ومنطقيين، لكن المشكلة تكمن في أننا لا نريد ذلك دائما. هذا المنطق يشعرنا بالملل، لذلك نطمح أحيانا ونحتاج إلى القليل من الفوضى، أو حتى الكثير منها، وفق الكاتب.
وأضاف الكاتب أن فيودور دوستويفسكي مؤلف رواية “الجريمة والعقاب” وغيرها من الروايات الرائعة، علّق ذات مرة (في روايته “مذكرات من العالم السفلي” الصادرة عام 1864) أن الناس عادة ما يكونون “أغبياء بشكل مذهل” وناكرين للجميل، ولكنه لم يكن متفاجئا على الإطلاق.
المخترعون والمؤدون
ونوّه الكاتب بأن نيتشه أيضًا أدرك مدى سهولة الوقوع في الخطأ، والرغبة في أشياء لا تستحق أن تكون مرغوبة، والإعجاب بأشخاص لا يستحقون الإعجاب.
وفي روايته “هكذا تكلم زرادشت” يقول الفيلسوف وحيال هذا الشأن “في هذا العالم، حتى أفضل الأمور تفتقر إلى القيمة دون وجود شخص ما يؤديها: يُسمى هؤلاء المؤدين عظماء، ونادرا ما يفهم الأشخاص ما هو عظيم ولا سيما قيمة ما يُخترع”.
وتتمثّل مشكلتنا في أننا غالبا ما نشيد بالمؤدين بدلا من المخترعين، أي أولئك الذين يدعون بجعل الأمور رائعة مجددا وبإنجاز المهام، والذين يجيدون إقناع الآخرين بهذا دون القيام فعلا بأي شيء رائع على الإطلاق، والكلام للكاتب.
وتساءل الكاتب حول ما يمكننا القيام به حيال كل هذا، وكيف نتعامل مع عالم غير واضح؟ وكيف نحافظ على سلامة عقولنا في عالم يبدو أنه يزداد جنونًا مع كل دقيقة تمر؟ لقد اقترح كتّابنا العظماء إستراتيجيات مختلفة تسمح لنا بالتأقلم: اعتقد شوبنهاور أنه ينبغي أن نتوصل إلى طريقة للقضاء على الإرادة، وندير ظهورنا للعالم إلى الأبد.
الانفصال عن العالم
ذكر الكاتب أن هرمان ملفيل اقترح فكرة الانفصال المسلّي عن العالم، بينما فضّل مارسيل بروست فكرة الهروب إلى عالم الفن، ووجد تولستوي المعنى والعزاء في الإيمان، والتجأ دوستويفسكي إلى الحب العالمي، واعتقد الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغو أن الحل يكمن في الاعتماد على الله.
وقد أشار نيتشه إلى أنه يتعين علينا أن نعتنق ونحب أيًّا كان ما يحدث لنا. ومن جهته، أفاد لودفيغ فتغنشتاين بأنه يجب علينا أن نعيش من أجل كل ما هو جيد وجميل.
وأشار الكاتب إلى أنه يُحتمل أن يحتاج تغيير العالم إلى نهج أكثر نشاطًا وأشد فعالية، بدلا من محاولة الهرب مما يحدث أو قبوله.
من جهة أخرى، يمكننا العمل باقتراح كامو المتمثل في خلق عالم أكثر جدوى، عبر التمرد ومحاربة الظلم بجميع أشكاله. ويمكن لهذا التمرد أن يكون محدودا ضمن نطاق معين، حيث لا حاجة إلى أن يكون صاخبا وملفتا للنظر. لا يستدعي منا الأمر سوى أن نكون أشخاصا محترمين وعقلاء، وأن نبقى كذلك مهما كانت التحديات التي نواجهها اليوم.
تبدو الفلسفة مع هذه الآراء المتنوعة مهمة لحياتنا لأن إجابات الأسئلة الفلسفية مهمة، ليس فقط لمسائل الحياة والموت، بل لأنها أيضا توفر لنا إجابات عن أسئلة طبيعة القانون، ودور اللغة، ومن أين تأتي الأخلاق؟ وما هي هويتنا؟ وما هو الجمال؟ وغيرها من الأسئلة التي تساعد المجتمعات وتعكس شيئا أساسيا عميقا عن البشر، وهو أننا كائنات مادية، لكن وعينا لا يقتصر على الأمور المادية فحسب. وفي الواقع، الفلسفة انعكاس واكتمال للطبيعة البشرية المركبة.
الجزيرة