على مدار الشهور الثلاثة الأولى من العام الماضي 2017 بدت الأحوال طبيعية كعادتها في مدينة “شينزن” الحضرية جنوب جمهورية الصين الشعبية، أحوال اعتادها أهالي المدينة وحتى المدن المجاورة التي تحظى بالروتين اليومي نفسه تقريبا، ومشاهدُ تقليدية لسكان “شينزن” بينها الوجود اليومي تقريبا لخبراءَ تقنيين يضعون كاميرات وشاشات كبيرة فوق إشارات المرور، ومن ثم يقومون بتوصيل كل مجموعة على صندوق أسود مُثبّت على عمود حديدي على جانب كل طريق. ولم يكن مشهد الشاشات بعد عملها بمرور الأيام مستهجنا بحال وهي تعرِض صورا مختلفة تخاطب الناس في الشوارع بشكل مستمر، إلا أن “غان ليبنج”، المواطنة الصينية الواصلة منتصف العام نفسِه من أرياف الصين النائية الفقيرة لـ “شينزن”، سرعان ما أثارت تلك الشاشاتُ فضولها وربما خوفها، خاصة وهي ترى عرضا مستمرا طوال اليوم لمعلومات الكثير من المارة الشخصية، مع تلفظ تلك الشاشات لأسماء أولئكم المارة و”جريمتهم” الحالية وسوابقهم بمجرد مخالفتهم لأي قاعدة مرورية، لتقودَها التجربة المفاجئة في إحدى ليالي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه لمعرفة وظيفتها بأوضح وسيلة ممكنة.
لم تكن “ليبنج” أمام أحد أفلام الخيال العلمي، أو تلعبُ دور “وينستون” مع شاشات الرصد في مسرحية تحاكي فصلا من رواية “1984” الشهيرة لجورج أورويل، وكل ما تطلبه الأمر منها تكرار لخطأ مشاة فقط، فعندما وصلت بدراجتها لعبور الطريق، كما أخبرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، سارعت للرصيف الآخر محاولة تفادي انتهاء زمن العبور، إلا أن الإضاءة الحمراء كانت بمنزلة تأكيد سريع على أنها فشَلت في ذلك، ولأن تلك هي المخالفة الثانية لـ “ليبنج”، كان النظام بالفعل يتعرف على وجهها ليضعها على شاشات الطريق معلنا أنها “صاحبةُ جناية مكررة”.
في الصين، يكفي تماما أن ترتكب مخالفة مرورية أو اثنتين ليتم تسجيل المُخالف كـ “معتدٍّ” على أحد القوانين الصينية، ومن ثم يتسبب ذلك بتدني تقييم ذلك الشخص في عمله، وربما يُرفض طلبُه لركوب أي رحلة جوية بسبب ما يسمى أمنيا بـ “عدم الجدارة بالثقة”، ومن ثم يحصل الشخص على علامة متدنية في تقييمه كـ “مواطن صيني صالح”. ولا ينسحب الأمر على المخالفات المرورية البسيطة فقط، فبفضل نظام المراقبة والتعرف على الوجوه العملاق، باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن لفهرس كل مواطن أن يخبره بالنقاط التي خسرها جراء شراء مأكولات غير صحية مثلا، أو فواتير التدخين الزائدة، أو التأخر في سداد القروض البنكية، والتقييم السيئ في العمل، وهو نظام يُعرف بـ “نظام الائتمان الاجتماعي”، نظام جلبت الصحافة الحديث عنه مؤخرا للأضواء بالتزامن مع تساؤلات حول جذور هذه الفكرة ضمن سياسات الحزب الشيوعي الحاكم العامة نفسها.
لطالما أحكم الحزب الحاكم قبضته على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية الصينية، وكانت قبضته تلك سببا في بقائه لأكثرَ من نصف قرن كمتحكم أعلى في بلد يُصنّفُ كثاني عملاق اقتصاديّ عالمي بعد الولايات المتحدة، وفي المرتبة 19 للأنظمة الأكثر ديكتاتورية عالميا أيضا. ومنطلقا من انفراده بالحكم بجوار أحزاب صورية شُكِّلَت لتحسين مظهره، عمل قادة الحزب المتعاقبون على غرس الولاء المطلق لمبادئ الشيوعية في صفوف الشعب، ولاء استلزمَ بلوغُه عدة إجراءات أمنية واسعة النطاق، بينها توظيف أعداد كبيرة من الشرطة السرية لمراقبة الأفكار واستجابة الأفراد لخطط الدولة، إلى جوار ضخ إعلامي حاشد لتكريس أدبيات الماركسية الاشتراكية، وانتهاء بمعاقبة “الخونة” بحسب تعريف الحزب لمخالفيه، وهي إجراءات كانت حاضرة بمجموعها في النظام الجديد اليوم، ولكن مع استثمار للتقانة شديدة التطور في مستويات أعلى.( 1)
بمساحة جغرافية شاسعة، وعدد سكان يقترب من الـ 400 مليون بعد المليار، وتطور مطّرد في تقانة المعلومات، ووفاء لفكرة المؤسسين الأوائل، تعلّم الحزبُ أن يجاري عجلة التطور متخذا من الرباعية السابقة حافزه للانتقال من نظام الرقابة والعقاب، إلى التأثير في سيكولوجيا الأفراد وصناعة سلوكهم، الأمرُ الذي يُتوقع أنه سيخلقُ نمطا موحدا من الولاء الذاتي يخفف قلقَ الحزب بشأن انضباط الجماهير، ولأجل ذلك، وللمضي في الشقّ العملي، فقد اعتمدت الحكومةُ النظام الذي جرى الحديثُ عنه، حيثُ يتم عبره احتساب رصيد الفرد من الأفعال “الصالحة” و”السيئة” بحسب معايير الحزب، معتمدا على قاعدة ضخمة من البيانات تغذيها التقارير اليومية للمُخبرين، وفيديوهات تتدفقُ من شبكة مراقبة على مستوى الدولة كاملة، لتضع النتيجةُ المتدنيةُ صاحبها أمام عقوبة الحرمان من بعض الامتيازات الوطنية أو بعض حقوقه بحد أدنى، ومانحة إياه في الآن نفسه فرصة لتصحيح سلوكه مقابل استعادة حقوقه بمرور الوقت، وهو نظام اعتُبِرَ امتدادا لمبدأ السلطة الأخلاقية اللينيني، ويستدعي الإعلان عنه الرجوعَ إلى بدايات العمل بهذا النموذج في الصين، وهي بدايات لم تكن أبدا وليدة اليوم وإنما تعود لعقود طويلة للوراء(2).
مواطنو الصين “الشرفاء”
“السماء عالية، والإمبراطور بعيد جدا”
مثل صيني قديم
على مر القرون، كان أي حاكم يجلس على مقعد الحكم في العاصمة الصينية “بكين” يجد صعوبة في الاطلاع على الأحداث اليومية التي تجري في المناطق البعيدة عن مركز إمبراطوريته، وحتى ولو قام بتوظيف العديد من الجواسيس والشرطة، فإن عوامل مثلَ المساحة الشاسعة للأراضي الصينية وعدد السكان الهائل كانت تتضافرُ لإبطاء انتشار المعلومات ووصولها إليه في زمن كافٍ لاتخاذ قرارات سريعة، ولأجل ذلك تبنّت السلطات حينها تنظيم الأسر في وحدات “لجان” تتولى تطبيق القانون في مقاطعاتها، وقام مواطنون مشاركون بدوريات بالإبلاغ عن الاضطرابات، بما يمكنُ اعتباره تكليفا للشعب بجزء من السلطة، نظام مراقبة شعبي حمل اسم “Baojia”.
إلا أن “ماو تسي تونغ” لطالما شعر بالقلق من لجان الإمبراطور تلك ومن نفوذها المتشعب، قلق جعله يضعُها على قائمة أهدافه بعد الانقلاب الذي قاده عام 1949 وتأسيسه لجمهورية الصين الشعبية كما نعرفها حاليا، وكمتزعم للحزب الشيوعي، فإن أول ما فعله “تونغ” كان تفكيكَ تلك اللجان وإلغاءَ صلاحياتها تأمينا لجبهته الداخلية، ثم وبمرور الوقت أعاد إحياءَها بأشكال مختلفة وتدجينَها في نظام مراقبة متعدد المستويات يعتمد على تقارير سكان محليين تثقُ الحكومة في ولائهم المُطلق للشيوعية، واستمرّت الأمور على ذلك حتى انفتاح الصين على السوق الرأسمالية في الثمانينيات تحت حكم أسطورة النهضة الصينية “دنغ شياو بينغ”، وهو ما خفف من حدّة فاعلية تلك المنظومة، لتصبح غالبيةُ لجان المراقبة المكونة على عين “تونغ” في طور الاحتضار بحلول التسعينيات، مع رؤية جديدة كانت تضعُ قواعدها الأولى على السطح بقيادة “جيانغ تسه مين” زعيم الحزب الشيوعي حينها ومن خلف “بينغ” في مقعد الرئاسة.
عُرف “مين” منذ نشاطاته الحزبية في الثمانينيات على أنه اشتراكي منفتح، صفة كانت حاضرة في سياسته بعد توليه الرئاسة عام 1993، من تعزيزه لصلاحيات الرئيس على حساب اللجنة العسكرية الموصوفة وقتها بـ “المستبدة”، إلى خطته الثلاثية في قيادة الصين إلى مصافِّ الكبار وإخراجها من عزلتها، متضمنة إجراءات بينها دعم التنمية الإنتاجية وتطوير الماركسية والتقاليد الثورية، ومنح الأولوية لقرار الشعب، فيما عُرف بثلاثية “التنمية والثقافة والأولوية”، وهي خطة استتبعت معها ضرورة الانطلاق من القواعد والاهتمامات الشعبية، ووضعته في شقها العملي أمام تأسيس أكبر شبكة استطلاع ومراقبة عرَفها التاريخ، شبكة استدعت بدورها ربط القرارات المؤثرة بمصير البلاد ووسائل العيش بنتائج الاستطلاعات، الأمر الذي دفعه لصياغة قاعدته الحاسمة للحكم والفاعلية “لا قرارات بدون استطلاع”.
لذا، مستفيدا من هيكليات لجان الرقابة السابقة، ومُضيفا قوة شرطة جديدة سُميت بـ “تشينقوان”(3) أوائل الألفينيات مع منحها صلاحيات لتطبيق القوانين ذات المستوى المنخفض، بدأ أعضاء الحزب -بتكليف من “مين”- قيادة الخطط الاستطلاعية بالتناوب، وقد تمت الاستفادة من حسابات المواطنين البنكية، وفواتير الشراء والرقابة الجزئية على وسائل التواصل الاجتماعي والويب، وتم جمعها مع البيانات المتدفقة من عشرات آلاف كاميرات الفيديو المنتشرة، في قاعدة بيانات ضخمة واحدة على مستوى البلاد، وخلال الفترة بين عامي 2004 و2007 أجرت الصين ثلاث موجات من النظام الشبكي من الاختبارات غطت 51 منطقة تجريبية فقط، لم تلبث أن قررت تطويرها مع المخاوف المتزايدة من حدوث اضطرابات مرافقة للآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية على الصين، وما استتبعته من آثار مستمرة حتى وقتنا الحالي. (4)
يمكِّننا تتبعُ الخط الزمني أعلاه من توقع حجم التململ الاجتماعي المتشكل، فمع تزايد الحديث حول فساد مرتبط بشخصيات حكومية وداخل شركات مملوكة للدولة، ثمّ التقلص التقليدي لنفوذ حكومة المركز على محافظات الأطراف اقتصاديا، مرورا بالجدل بين الإصلاحيين والشيوعيين المحافظين داخل الحكومة، تزايدت كتابات النشطاء والمعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الخاصة معبرة عن الاستياء المنعكس عن كل ذلك، مع تفاقم الاضطرابات في الأرياف نتيجة الإهمال الحكومي وتزايد الهجرة تجاه المدن(5)، والتي لامسَت سقفا عاليا عام 2010 معلنة لأول مرة عن تفوق المدن على الأرياف في التعداد السكاني، ومعلنة في الآن نفسه عن استجابة طارئة للحزب، بإعلان الدخول في طور جديد من الاستطلاع حمل اسم “العيون الثاقبة” (Sharp Eyes).
ولأن استطلاعا على مستوى الصين كلها يستلزمُ بالضرورة موارد ضخمة، فقد اقتصرت إجراءات “العيون الثاقبة” على المدن الحضرية، وبدءا من ناطحات السحاب وحتى مقاعد الحدائق بدأت الفرق الرقمية بترميز البنى التحتية، وربطها بكتل إدارية ذات مُعرِّفات خاصة، متصلة مع قاعدة بيانات ضخمة تُدار بنظام واحد تغذيه الصور والفيديوهات القادمة من عشرات ملايين الكاميرات المثبتة في المرافق العامة والخاصة وصولا إلى الكاميرات المسيرة. وأتى ذلك رفقة انتعاش شهدته لجان المراقبة لأخذ مستويات جمع المعلومات إلى سقفها الأقصى، ففي مدينة “قوانغتشو” الجنوبية على سبيل المثال، وبأي ساعة خلال اليوم، يمكن تمييز 12 ألف كاميرا لنشاطات كل مئتي أسرة، وهو أمر وُصِفَ بالبدائي ونقله تنافس شركات وادي السيليكون الصيني التقنية في بيع خدماتها لمستويات أكثر فاعلية.
بعد ذلك، كان بإمكان أي مراقب للحزب وعبر شاشة هاتفه المحمول متابعةُ ما تبثه كاميرات الأمن، وبالتالي الإبلاغ عن أي نشاط غير مألوف أو مخالف للائحة، وهو مشروع بدا في شقه العمليّ اقتباسا من المبدأ الشيوعي الشهير “الجماهير لها عينان حادتان” واستحضارا لمحاولات “تونغ” جعلَ كل مواطن يتجسس على الآخر، ولكن مع استدخال لتكنولوجيا أكثر تطورا من زمنه بكثير. (6)
السور الناري العظيم
مع دخول كبرى شركات الذكاء البرمجي سوق التنافس على تقديم خدمات تتبُّع ذلك الدفق الهائل من البيانات، أصبحت التقنيات الحكومية حساسة للّغة على نحو متزايد، وأكثر قدرة على تحديد مصدر تدفق نوع محدد من البيانات، ما عنى أن أي عملية بحث حول مواضيع محظورة ومثيرة للجدل، كـ “احتجاجات 1989” أو “مذبحة ميدان السلام السماوي” مثلا(7)، ستضعُ موقع صاحبها تحت مجهر وكالات الأمن السيبرانية الصينية إضافة لحظر الصفحة، وسيكون وصول الشرطة السرية إليه مسألة وقت لا أكثر.
في نهاية العقد الألفيني الأول، ومع عدد مستخدمين للإنترنت يتجاوزُ حاجز نصف مليار، وتزايد سريع بأعداد مستخدمي فيسبوك ليلامس سقف 800 مليون صيني، وصعوبةٍ كبرى في مراقبة النشاط الإلكتروني المتزايد للصينيين، انتقل خبراء الأمن إلى حظر فيسبوك كاملا عام 2009، ثم تبعه حظر لأباطرة العالم الرقمي الآخرين كـ “تويتر” و”يوتيوب” و”أمازون” و”إنستغرام” وآلاف المواقع الأخرى بمرور الوقت، لتكونَ الرقابة المحكمة والمستمرة على الويب، وصولا للسماح بالتطبيقات ضعيفة الخصوصية مثل “الويب شات” بمواصلة العمل، وإدخال تطبيقات صينية بديلة يمكن رقابتها وإحكام السيطرة عليها، وهي لمسات الحزب الأخيرة على ما يمكن تسميته بـ “السلطوية الشبكية” بحسب تعبير الأكاديمي الأميركي “ريبيكا ماكينون”، أو بـ “الجدار الناري الصيني العظيم”(8) بحسب الحكومة الصينية.
فأسوة بسورها العظيم الذي حمى الإمبراطورية من هجمات الخارج، أطلقت الصين جدارها الناري لمحاصرة “خونة الداخل” والذين تم تعريفهم وفق أدبيات الحزب الشيوعي بأنهم “كل مخالف لرؤيته”، حاجبة عنهم آلاف المواقع الإلكترونية مع كمّ هائل من المعلومات، وبرغم ذلك، فإنه حسب تقرير لنيويورك تايمز فإنّ معظم الصينيين، بما في ذلك ذوو التعليم العالي، راضون في الغالب عن الأخبار والمعلومات المتاحة لهم، وبالرغم من أن برامج البروكسي تسمحُ للناس بالقفز على “جدار النار” واستكشافِ الإنترنت العالمي؛ لكن غالب الصينيين يشعرون بالسعادة تجاه العالم الذي توفرهُ لهم الإذاعات والمنشورات المرخصة من الدولة.
المواطن الصالح
لدى تسلم “تشي جين بينغ” الرئاسة عام 2013، وتحت عنوان “مكافحة الفساد”، وجد مليون صيني أنفسهم في السجون في إطار حملة أمنية استهدفت التخفيف من الاحتقان الشعبي ضد العديد من الممارسات غير القانونية لشركات مملوكة للدولة، حملة احتفت بها قاعدة عريضة من الصينيين، ووُصفَت في الآن نفسه من قِبل مُنتقدين بتطهير لفناء الحزب الخلفي من المنافسين المحتملين، وللمجتمع من المثقفين المخالفين لرؤية الحزب، وهو أمر فُسِّرَ بأنه خطوة لجلب جيل أكثر ولاء للقيادة العليا.
في الفترة نفسها، وبعد العنف الذي نجم عن تجاربَ مبكرة لنظام التصنيف جنوب الصين قبل عامين من تولي “بينغ” الرئاسة، عزا القائمون على نظام “العيون الثاقبة” -للصحافة محدودة الوجود- إنشاءه لأهداف مكافحة الجريمة وتحقيق الرفاهية للشعب، ولأن الخط الأيديولوجي للحزب يتبنى محاصرة الأديان، فقد نظم الإعلام الرسمي حملات دعائية استهدفت تشويه أقليتي التبت والإيغور، لتُصور عمليات النظام العسكرية ضدهما حربا مشروعة لإحلال الأمان والحفاظ على مبادئ الاشتراكية التي جلبت الازدهار للصين.
ظلت تلك البروباغندا مُسلطة من قِبل وسائل الإعلام المحلية والإنترنت المتاح ما دون الجدار الناري لشهور طويلة متواصلة وصولا لوقتنا الحالي، وشيئا فشيئا، بدأ الصينيون يربطون بين الازدهار والأمان من جهة ووجود شبكة من الكاميرات تتبعُ حركاتهم من جهة أخرى، وغدت الفيديوهات التي تُبث من الكاميرات الأمنية، بشكل متواصل ومباشر على الإنترنت، مادة للتعليق مُركِّزَة على أنشطة المارة ونمط الملابس، فيما غاب أي ذكر للخصوصية. (9)
بعد التحولات الأخيرة في سيكولوجيا الجماهير الصينية، والتي كانت مطمئنة للنظام بما يكفي، انتقلت الحكومة لمستويات أكثر جرأة، ومن بين أبرز التجارب التي كافحت للخروج للعلن في وقت سابق، أعلن المجلس الصيني عن إطلاق “نظام التصنيف الاجتماعي”(10) في يونيو/حزيران 2015، لتحديد المواطنين الذين يشكلون أثرا سلبيا على المجتمع ومعالجتهم، فيما كانت المباشرة الفعلية الأولية له منتصف العام التالي 2016.
عبر التاريخ، لطالما مثّلت رؤية المؤسسين الأوائل للشيوعية في خلق استجابة موحّدة للجماهير طموحا لقادة الحزب المتعاقبين، ولذلك فإن بنك معلومات هائلًا يتجمع بشكل يومي، ومخبرين موثوقين، وكمًّا ضخما من الفيديوهات عبر شبكة مراقبة واسعة، كانت عوامل مجتمعة قدحَت لدى الحزب فكرة أكثر جرأة، حيث بدأ بتعميم نظام مكافآت وعقوبات يعتمد على تتبع نشاط الأفراد في مُختلف الأماكن، وتقييمها داخل قاعدة مرجعية وفق معاييرَ محددة، ولأن الصين ترغب دوما في تصدُّر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، فقد كانت الصفقة متكاملة، حيث تمكّنت الكاميرات الجديدة من التعرف على الأفراد في الآن “Real Time Tec”، بالمقارنة مع صورهم وخصائصهم الجسدية المُسجلة في قاعدة البيانات، وهو أمر عنى أن كل شيء بات جاهزا لإنتاج أفراد صالحين وفق معايير الحزب، الأمر الذي وُصفَ بأنّه استثمار الذكاء الصناعي لفرض سلطة أخلاقية.
في عامنا الحالي، ومع نمو متزايد لأعداد الكاميرات يلامسُ سقفَ 200 مليون كاميرا، وسيتخطى حاجز نصف المليار كاميرا بعد عامين(11)، وصل عدد الممنوعين من طلبات ركوب رحلات جوية لنحو 11 مليون صيني، وكذا لا يستطيع بضعة ملايين آخرون الحصول على قروض بنكية، ويوجد نحو 4 ملايين صيني لا يستطيعون شراء تذاكر قطارات، وملايين آخرون ممنوعون من استخدام شبكة الإنترنت الصينية، بسبب ما سمّته لهم وكالات الأمن بـ “عدم الجدارة بالثقة”، ولدى تصفحهم قسائم الرفض، تبيّن أنهم حصلوا على تقييم متدنٍّ في سلوكهم كمواطنين صالحين، مانحة إياهم فرصة لاستعادة تلك الحقوق مقابل تصحيح سلوكهم بما يتفق مع لوائح الحزب.
تزامن ذلك مع نشر تقارير صحفية تُفيد بأن شركة “واتريكس”، إحدى بائعي خدمات الذكاء الصناعي للصين، بصدد تحسين تقنيات التعرف على الأفراد، لتشمل تمييزهم من أسلوبهم في المشي، وهو ما سيُمكّنها من معرفتهم من مسافات بعيدة قد تصل لعشرات الأمتار، بالتزامن مع تجارب أخرى تجري في مقاطعة “آنهوي” لبناء قاعدة بيانات لأنماط الصوت، وبالجمع بين البيانات المسجلة في القاعدة المرجعية، وتقنيات التتبع عبر ملامح الوجه ثم طريقة المشي، ونمط الصوت، تكون الصين قد وضعت يدها على مفاصل الطبيعة البشرية الرئيسة بشكل شبه كامل، في أعلى مستوى للتأثير على الأفراد عرَفته البشرية تقريبا. (12)
تسير الصين الآن في طريق تقود العالم فيه بشكل كامل نحو صناعة دليل فريد للسيطرة في أعلى صورها، فنظام المراقبة الصيني المرتكز على تقنية التعرف على الوجوه، والذي دخل الخدمة في منتصف العام الحالي في 16 مقاطعة ومدينة، والمكون من ملايين الكاميرات وبلايين الأسطر من الأكواد، يستطيع نظريا إجراء مسح شامل لكل التعداد السكاني الصيني “1.38 مليار نسمة” في ثانية واحدة، وهو معدل مذهل بالمقاييس التكنولوجية الحالية.
ومن “كامبريدج أناليتيكا” بفرعها البريطاني لتوقع السلوك والتأثير في الرأي العام، إلى معامل الصين لصناعة السلوك وتوحيد نمط الأفراد، ومع قدرة على إعادة كتابة الماضي والحاضر عبر الجدار الناري العظيم، مُرورا باختراق خصوصية الأفراد عبر العيون الثاقبة، ووصولا لصناعة سلوكهم وتغيير أفكارهم عبر نظام الانضباط، يأتي التعديل الدستوري الذي جرى في مارس/آذار من العام الحالي(13)، ممكّنا بينغ من حكم البلاد للأبد، لتكون الصين قد أتمّت معه دليل صنع دولة الأخ الأكبر على أكمل وجه، دليل ممثل برباعية يمكن اختصارها في “الحريةُ هي العبودية” و”الجهلُ هو القوة”، و”الحربُ هي السلام”، وصولا لصناعة أكثر مواطن “صالح” قد يعرفه المستقبل.
مدونة الجزيرة