يثير عدم اليقين الكبير المحيط بمستقبل عمليات مكافحة الإرهاب في شمال شرق سوريا مخاوف مفهومة حول عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق. ففي النهاية، كانت عودة هذا التنظيم بين عامي 2011 و2014 تُعزى جزئياً إلى ظروف الحرب الفوضوية في سوريا، وسيشكل قمع الجماعة هناك تحدياً كبيراً خلال الأشهر المقبلة وسط الانسحاب الأمريكي والغزو التركي. غير أن عودة التنظيم في العراق مجدداً أمر لا مفر منه – فالبلاد عرضة لعوامل محركة داخلية مختلفة، وما زالت الولايات المتحدة في وضع جيّد يؤهلها لقيادة دعم دولي لجهود بغداد لمكافحة الإرهاب. ومع ذلك، سيتعين على واشنطن المحافظة على انخراطها والتعامل مع المشاكل الجديدة بشكل عاجل إذا كانت تأمل في منع تمرد كارثي آخر.
عوامل محركة من الماضي قد تبرز من جديد
حين بدأ تنظيم «الدولة الإسلامية» يستعيد قوته بفعالية كبيرة في عام 2011، كانت ثلاثة من العوامل المحركة الأربعة الرئيسية عوامل عراقية محلية غير مرتبطة بسوريا. ومن المسلّم به أن العامل المحرك الوحيد المرتبط بسوريا كان مهماً، فوجود تنظيم «الدولة الإسلامية» هناك وفّر ملاذاً آمناً متاخماً، وميداناً للتدريب على العمليات، وطريقاً للمجندين الأجانب عبر المطارات التركية، وكذلك مصدراً للأسلحة من الفئة العسكرية، أي بشكل أساسي تأمين بيئة حاضنة لقوة انبثقت في المقام الأول عبر الحدود وبدأت الهجوم على شمال العراق. ومع ذلك، توقّف النجاح الأوسع للتنظيم في العراق بدرجة أكبر على العوامل المحركة الثلاثة الأخرى:
الانفتاح السنّي على الانتفاضة المسلّحة. في بداية عام 2011، شاركت المجتمعات العربية السنّية في شمال العراق وغربه في تمرّد مفتوح بسهولة تامة بسبب السياسات الطائفية التي انتهجها رئيس الوزراء الشيعي العراقي آنذاك نوري المالكي. وعكست حركة احتجاجية سنّية قوية هذا الانفتاح، وحين هزم تنظيم «الدولة الإسلامية» قوات الحكومة العراقية على أرض المعركة، كان السكان السنّة منقسمين في بادئ الأمر، في حين نظرت النخبة السنّية في المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» إلى النتيجة بشكل انتهازي.
تسييس القيادة العسكرية. حين تقدّم تنظيم «الدولة الإسلامية» ليصبح على بعد 40 ميلاً فقط عن العاصمة واستولى على الفلوجة في كانون الثاني/يناير 2014، لم يواجه أي ردّ عسكري. وحين استولى على الموصل بعد خمسة أشهر، تفككت ست فرق عراقية والعديد من أجهزة الشرطة المحلية في أقل من أسبوع. ويمكن أن تعزى تلك الإخفاقات المهينة إلى الإضعاف المطرد للقيادة العسكرية العراقية، التي قامت فيها حكومة المالكي والأحزاب الشيعية المؤيدة لها بتعيين أتباعها السياسيين الفاسدين عوضاً عن محترفين مؤهلين.
الانسحاب الأمريكي. أدى سحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 إلى إزالة دعامةً أساسيةً للحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». أولاً، خسرت واشنطن أي سبيل لمراقبة الفساد أو تخفيفه في القيادة العسكرية العراقية، والذي تسارعت وتيرته فور مغادرة القوات الأمريكية المناصب القيادية. ثانياً، أثار غياب المستشارين الأمريكيين الانهيار السريع للتدريب والدعم اللوجستي لقوات الأمن الأمنية العراقية. ثالثاً، بعد خسارة وسائل قياس مستويات أنشطة تنظيم «الدولة الإسلامية» بدقة عبر جمع معلومات استخباراتية شاملة على الأرض، أوهمت الحكومتان العراقية والأمريكية نفسهما بالاعتقاد بأنه تمّ القضاء على التنظيم. رابعاً، توقفت الملاحقة الاستباقية لقادة التنظيم وورش العمل حول السيارات المفخخة ما أن غادرت القوات الخاصة الأمريكية وانتفت القدرات الاستخباراتية، الأمر الذي صعّد وتيرة الهجمات التي خلّفت وراءها أعداداً هائلة من الضحايا في المدن بين عامي 2012 و2014.
لحسن الحظ، لم يعد أي من هذه العوامل المحركة قائماً في العراق اليوم، أو على الأقل ليس بالقدر الذي كانت عليه قبل خمس سنوات. وربما الأهم من ذلك، تخلّى الجيل الحالي من الراشدين العرب السنّة أساساً عن الانتفاضات المسلحة. ولا يبدو أنه يقدّم مجندين للمشاركة في ما تبقى من أنشطة ينفّذها تنظيم «الدولة الإسلامية» داخل العراق. حتى أنّ سلسلة التظاهرات الشيعية الأخيرة في أرحاء مختلفة من البلاد لم تتطور إلى اضطرابات كبيرة. فقد شهد السكان السنّة على ما اقترفه التنظيم حين حكم مدنهم، وبلداتهم، وقراهم: فأساليبه كانت وحشية ودكتاتورية وعجزت في النهاية عن الدفاع عنهم من التدفق [المحتّم] للميليشيات الشيعية والدمار من الحرب. ومنذ ذلك الحين، لم يتوانَ السنّة عن إبرام أي اتفاق يتسنى لهم مع ميليشيات أو قوات حكومية فقط لكي يتمكّنوا من العودة إلى قراهم وتوظيف رجالهم في الوحدات المحلية للدفاع عن النفس. ولا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يحتفظ بمخابئ أسلحة كبيرة في العراق (على سبيل المثال، يتم العثور على عشرات سترات الانتحار من قبل قوات الأمن كل شهر)، لكنّ يبدو أن التنظيم يفتقر إلى المجنّدين اللازمين لاستخدام هذه الأسلحة أو شن تمرد قوي.
ومع ذلك، يمكن إعادة تنشيط بعض العوامل المحركة القديمة بسبب حسابات خاطئة على الأرض، في وقت تثير فيه عوامل محركة جديدة أخرى مخاوف جديّة خاصة بها. ويتمثّل العامل المحرك الأكثر إثارة للقلق في الطريقة التي تخرّب بها الكتل السياسية الأمن القومي من خلال أفعالها مثل تمكين الميليشيات الطائفية العاملة تحت غطاء «قوات الحشد الشعبي». وإذا لم يتم ضبط هذه الاتجاهات، يمكن أن تتراكم وتؤديَ في النهاية إلى عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، وسبق أن بدأ يتجلى مؤشران مثيران للقلق حول الأمر:
بغداد تُضعف قيادتها العسكرية من جديد. بتأثير من فصائل برلمانية موالية لإيران وذات قيادة شيعية مثل «منظمة بدر»، اتخذت الحكومة العراقية عدداً من الخطوات مؤخراً تهدد بإضعاف جيشها. على سبيل المثال، تآمر قادة الميليشيات من أجل تنحية عدد من القادة المحترفين، وأبرزهم الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من جهاز مكافحة الإرهاب واللواء الركن محمود خلف الفلاحي من قيادة عمليات الأنبار. ومن ناحية أخرى، تشهد قوات الجيش ووحدات مكافحة الإرهاب الأكثر فعالية في البلاد تراجعاً بطيئاً في ميزانياتها ومكانتها السياسية، لصالح الميليشيات التي تدعمها إيران.
قوات التحالف مقيّدة. تمكّنت “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«” بقيادة الولايات المتحدة من مواجهة عدد من العواصف السياسية في العراق، ويبدو أن بغداد تدرك أن وقف المساعدات الدولية من شأنه أن يعيدها إلى الطريق المهلك الذي سلكته بين عامي 2011 و2014. ومع ذلك، تخضع “قوة المهام” لقيود متزايدة تحدّ من فعاليتها: فالميليشيات المدعومة من إيران استخدمت هجمات صاروخية وتهديدات بالخطف من أجل إنشاء بيئة حامية أكثر عدائية إزاء مستشاري “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«”؛ وعمل سياسيون مدعومون من إيران على قَطْع التواصل بين “قوة المهام” هذه و «قوات الحشد العشائري» السنّية المدعومة من الولايات المتحدة والمتواجدة في المناطق التي يركّز فيها تنظيم «الدولة الإسلامية» عملياته؛ كما واجهت قوات التحالف صعوبات في تسيير طائرات بدون طيار وتوفير الدعم الجوي بسبب القيود المتشددة على المجال الجوي التي فرضها وكلاء إيران مرة أخرى.
توصيات في مجال السياسة العامة
يُعتبر الانسحاب الأمريكي من سوريا تطوراً سلبياً للغاية سيرغم واشنطن على مضاعفة جهودها في العراق. ففي عام 2011، كان الانسحاب الأمريكي السبب في تدهور القيادة العسكرية في بغداد بشكل خطير، وتقويض قواتها المسلحة، ودفع السكان السنّة نحو الانتفاضة. وسيتكرر ذلك إذا فكّرت واشنطن بسحب قواتها مجدداً أو لم تستطع عكس الاتجاهات المقلقة المذكورة أعلاه. فالعراق يحتاج الآن إلى “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«” أكثر من أي وقت مضى، ويحتاج التحالف بقيادة الولايات المتحدة إلى شريك عراقي كفؤ إذا كان يأمل بتحقيق هدفه الأساسي المتمثل بإبعاد خطر تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي المرحلة المقبلة، يجب أن يركز التحالف على الضرورات التالية:
منع انتفاضات سنّية جديدة. بمرور الوقت، قد تقرر أرامل وأبناء إرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» الانضمام إلى المقاتلين الناجين وشركائهم لتشكيل نواة انتفاضة جديدة. ويمكن للولايات المتحدة ومجموعة كبيرة من شركائها في التحالف المساعدة على منع عودة التنظيم من خلال الضغط على الحكومة العراقية للقيام بما يلي:
توظيف مجندين سنّة جدد بشكل دائم في قوات الأمن المحلية، وذلك جزئياً عبر فصل الميليشيات السنّية عن «قوات الحشد الشعبي»
إضفاء الطابع الاحترافي على جميع قوات الأمن العاملة في المناطق السنية
تشديد هيكلية القيادة والسيطرة على جميع الميليشيات
تسريع إعادة توطين العرب السنّة في مناطقهم الأصلية
إطلاق سراح المئات من السنّة المحتجزين بشكل غير قانوني، على غرار أولئك الذين اختطفتهم جماعة «كتائب حزب الله» الإرهابية المدعومة من إيران والمحتجزين في قاعدة “جرف الصخر” خارج بغداد
حماية المؤسسات العسكرية العراقية. على التحالف حماية الجيش العراقي و”جهاز مكافحة الإرهاب” من خلال الضغط على بغداد لئلا تقوّضهما من حيث الميزانية أو القيادة. فـ “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«” جهة مانحة رئيسية للمساعدات الأمنية إلى العراق، ولا بدّ من أن تتبنى نبرةً صارمةً لضمان عدم إقدام الكتل السياسية المدعومة من إيران على تحويل هذه المساعدة في ميزانية 2020 لصالحها أو إضعاف قدرة قوات الأمن الرئيسية. كما يتعين على مسؤولي التحالف حث العراق على إنشاء قوات غير تابعة للميليشيات على الحدود مع سوريا، ووضع جميع الميليشيات تحت هيكلية قيادة موحدة بقيادة ضباط تلقوا تدريبهم في كليات الأركان ويتمتعون بالتزام وطني واضح تجاه العراق، وليس تجاه الميليشيات أو الأحزاب السياسية.
حماية “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«”. إنّ الأمر الوحيد الذي يقف بين بغداد وتعرّضها لحملة قصف مكثفة من المناطق الحضرية هو جهود مكافحة الإرهاب التي تدعمها الولايات المتحدة وتنفّذها القوات المسلحة العراقية المحترفة. يجب على كبار القادة من العراق والتحالف الاستمرار في تحذير الميليشيات من تهديد “قوة المهام المشتركة »عملية الحل المتأصل«”، مع تذكيرهم بانتظام بأنّ المستشارين الأجانب لهم الحق الأصيل في الدفاع عن النفس وأنّهم سوف يمارسونه بقوة إذا لزم الأمر. وأخيراً، على الدول المشاركة في التحالف أن تضغط على العراق بشكل عاجل وجماعي لاستعإدة قدرتها على الوصول إلى «قوات الحشد العشائري» السنّية والتخفيف من القيود المفروضة على المجال الجوي.
معهد واشنطن