في التاريخ، يصادف هذه الأيام (الرابع عشر من شهر صفر سنة 16 هجرية) ذكرى دخول جيوش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص إلى “المدائن” عاصمة الدولة الساسانية ومقر الملك الفارسي كسرى الواقع في الجنوب العراقي على بعد نحو 20 ميلا من العاصمة بغداد حاليا، وقد جاءت هذه المعركة في إطار حركة الفتوح التي شهدها العراق آنداك، وقد أسهم الاستيلاء على المدائن في التأسيس لانهيار الإمبراطورية الفارسية وانتشار الإسلام في كل بلاد فارس.
وفي الخبر أن النظام الإيراني اتفق مع الحكومة العراقية على دخول نحو 7500 عنصر من الشرطة والأمن والوحدات الخاصة الإيرانية إلى الأراضي العراقية مع آلياتهم من أجل تأمين الحماية لأكثر من مليوني إيراني سيدخلون العراق بمناسبة زيارة “أربعين الحسين بن علي” في العشرين من صفر.
لم يكن الحديث الذي أدلى به علي يونسي، وزير الاستخبارات الأسبق في عهد الرئيس محمد خاتمي ومستشار الرئيس حسن روحاني لشؤون الأقليات، عن سيطرة إيران على أربع عواصم عربية، وأن الإيرانيين عادوا ليسيطروا على عاصمتهم القديمة في المدائن العراقية، لم يكن هذا الحديث متأتيا عن خطأ في التقدير، خصوصا أن هذا الموقف ترافق مع “دعوات” زميله في فريق خاتمي ونائبه للشؤون البرلمانية محمد علي أبطحي على إحدى منصات التواصل الاجتماعي حينها، بألا يكون أي من وسائل الإعلام قد تنبه لما قاله “يونسي”، منتقدا ما صدر عنه، معتبرا أن بعض المسؤولين الإيرانيين لم يدركوا بعد أن العالم يعيش ثورة في وسائل التواصل والإعلام، وأنهم ما زالوا يعتقدون أنهم يعيشون في دهاليز التاريخ لا أحد يسمع ما يقولونه وما يتفوهون به من مواقف. إلا أن هذا الكلام جاء تعبيرا واضحا عما يدور في العقل الإيراني وتفكيره تجاه الإقليم وتحديدا المنطقة العربية، والدور الذي ترسمه قيادة النظام في طهران لهذه الدول وهذه المنطقة، وهو ما جاء واضحا في تصريحات العديد من القيادات العسكرية في حرس الثورة خصوصا كبير مستشاري المرشد الأعلى العسكري الجنرال يحيى رحيم صفوي (القائد الأسبق لحرس الثورة) عندما أكد أن ايران باتت مشرفة على سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية من خلال الوجود المباشر وعبر الحلفاء عبر الخط البري الذي أنشأته عبر العراق مرورا بسوريا وصولا إلى لبنان، في حين يشكل النفوذ في اليمن عودة إلى الذاكرة التاريخية عندما كان اليمن تابعا للإمبراطورية الفارسية قبل الإسلام.
بالعودة إلى العراق، وتحديدا للقرار الذي أعلن عنه بدخول 7500 عنصر من الأجهزة الأمنية والوحدات الخاصة لحراسة الزوار الإيرانيين، وهو قرار ليس جديدا، فقد سبق للحكومات العراقية السابقة أن سمحت للجانب الإيراني بهامش أمني في تأمين وحراسة الزوار الإيرانيين بعد دخولهم إلى الأراضي العراقية، إلا ان الجديد في الموضوع هو حرص الجانب الإيراني هذه المرة على الترويج لهذا الأمر وتضخيمه عبر الإعلام، في ظل حديث إيراني عن مؤامرة “خارجية” تستهدف العلاقات العميقة والعريقة بين الشعبين الإيراني والعراقي وهي التي تقف وراء المظاهرات التي شهدها العراق أخيراً والتي شهدت رفع شعارات ضد الوجود والنفوذ الإيراني في العراق. إضافة إلى ذلك، فإن الجانب الغيراني في الخلفية التي حركت هذا الأمر بنى على معطيات تاريخية من العصور الوسطى تجد جذورها في الصراع الصفوي العثماني حول النفوذ في الإقليم، خصوصا على الساحة العراقية.
فعلى الرغم من البعد الجيوستراتيجي والجيوسياسي للصراع الذي دار بين السلطتين الصفوية والعثمانية في الهضبة الإيرانية وامتداداتها نحو آسيا الوسطى والقوقاز من جهة، والشرق الأوسط من جهة أخرى، فقد شكل العراق الساحة الأكثر اشتباكا بين الدولة الصفوية مع السلطنة العثمانية، وقد حرص الطرفان على إعطاء هذا الصراع السياسي بعدا دينيا ومذهبيا، وتوظيف ذلك من أجل تثبيت مواقعهما السياسية ومساحات نفوذهما في الإقليم. لعل الاتفاقيات الثنائية التي عقدت بين الطرفين والتي بلغت نحو 18 اتفاقية عقدت في الفترة من سنة 1555 حتى سنة 1918 وكان عنوانها حل الخلافات الحدودية بين السلطنتين.
ومن بين هذه الاتفاقيات، يمكن التوقف عند اتفاقيتين تعتبران الأبرز بين هذا الكم من المعاهدات، وهما اتفاقية أماسيه عام 1555 واتفاقية قصرشرين أو زهاب لعام 1639، إذ أسس المعاهدة الأولى لحدود وآلية التعامل الصفوي العثماني حول المزارات الشيعية في النجف وكربلاء وسامراء وبغداد، أما المعاهدة الثانية فبالإضافة إلى تضمنها تفاصيل العلاقة حول هذه المزارات، فإنها استمرت نحو أربع سنوات استوفى فيها الطرفان كل الشروط الجغرافية والجيوسياسية لرسم الحدود بينهما من جورجيا وأرمينيا وصولا إلى العراق، وهي المعاهدة التي أسست للحدود التي تم اعتمادها في اتفاقية سايكس بيكو بداية القرن الماضي.
فبعد أن استسلمت السلطة الصفوية لحقيقة عجزها عن السيطرة على العراق عسكريا ومباشرة، سعت وعملت على تثبيت تفاهم مع السلطة العثمانية يقر لإسطنبول بسيطرتها على العراق مقابل اعتراف عثماني بحقوق إيران التاريخية في العراق وحق السلطنة الصفوية في الإشراف على شؤون المزارات الشيعية وإدارة شؤون الزوار الذين يأتون إلى هذه المقامات حمايتهم وتوفير الأمن لهم، وتحت هذا العنوان استطاع الصفويون فرض تخفيضات في الرسوم الجمركية التي كانت تفرضها السلطنة العثمانية على الأشخاص الذين يدخلون إلى العراق أو يقومون بأعمال تجارية فيه، فخفضت المكوس وألغت البعض الآخر، ما سمح لها بحرية التصرف في هذه الأماكن في إطار تقاسم النفوذ بينها وبين العثمانيين.
انطلاقا من هذا النفوذ التاريخي، فإن النظام الإيراني الحالي يرى أن ما يقوم به في العراق من نفوذ وتحكم وسيطرة على مفاصل هذا البلد السياسية والدينية والمذهبية، يعتبر امتدادا تاريخيا لما سبق أن حصل عليه إبان الصراع الصفوي العثماني، وقد استطاع أن يستعيد هذا الدور الذي تراجع منذ إعلان قيام الدولة العراقية، مستفيدا من الاحتلال الأميركي الذي سمح له بالعودة إلى سياسة التغلغل والسيطرة، وما الإعلان عن دخول القوات الأمنية والوحدات الخاصة هذا العام لحماية الزوار يندرج في إطار ما يعتبره حقا تاريخيا وترجمة لطموحاته في السيطرة على هذه الجغرافيا في إطار مشروعه الإقليمي. وهو على استعداد للدخول في أي مغامرة من اجل الحفاظ على هذا النفوذ حتى ولو أدى ذلك إلى الدخول في مواجهات مع أطراف عراقية رافضة أو غير راضية عن هذا الدور، وهو ما برز في المفاصل الأساسية والمصيرية من تاريخ العراق ما بعد 2003، خصوصا في الأشهر الأخيرة التي شهدت تظاهرات شعبية مطلبية رفعت في جانب من حراكها شعارات سياسية معادية للهيمنة الإيرانية على العراق.
اندبندت العربي