يبدو صوت الإعلام المصري خافتا تجاه القيود التي يفرضها مشروع قانون جديد لمكافحة الإرهاب على الحريات التي يكفلها الدستور، ومن بينها حرية الصحافة. ويغيب صوته إلا في ما ندر بخصوص فلسفة هذا المشروع، الذي يغفل عن أن بناء دولة القانون جزء لا يتجزأ من أي معركة ناجحة ضد الإرهاب، ويخالف نحو عشر من مواد الدستور الذي يُعدّ احترامه جزءاً لا يتجزأ من بناء نموذج يدعم فرص الانتصار في هذه المعركة.
لم يهتم معظم الصحافيين الذين انتقدوا المشروع، إلا بمادة واحدة فيه كانت تنص على حبس من ينشر أخباراً غير صحيحة عن الجرائم الإرهابية، ولا يلتزم بالبيانات الرسمية قبل تعديل العقوبة الى الغرامة، على رغم أن في بعض مواده الأخرى (54) عقوبات أشد بكثير على النشر أيضاً. فالحبس لمدة 5 سنوات هو مصير من «يُروّج أو يعدّ للترويج بطريق مباشر أو غير مباشر لارتكاب أية جريمة إرهابية، سواء بالقول أو الكتابة»، وكذلك من ينشئ مواقع إلكترونية أو يستخدمها «للترويج للأفكار الداعية إلى ارتكاب أعمال إرهابية».
ويصعب في طبيعة الحال، وضع تعريف محدّد لعبارة مثل «بطريق مباشر أو غير مباشر»، فيما يستحيل وضع تعريف منضبط لـ«الأفكار الداعية للإرهاب». وإذا كان ممكناً تحديد مجال معين لتهمة مثل الترويج لارتكاب أعمال إرهابية، فليس مفهوماً ما الذي يعنيه «الإعداد للترويج» في هذا المجال.
فالنصوص فضفاضة يمكن استخدامها على أوسع نطاق، على نحو يجعل التوسّع في التجريم مفتوحاً بلا حدود. لكن هذا لا يختلف منهجياً عن توسّع قسم يُعتد به من الإعلام، في توزيع الاتهامات بالجملة على من يختلفون مع الصوت السائد فيه ضمن حملة ضارية ضد ثورة 25 يناير وأهدافها، وليس بعض رموزها فقط. وربما لهذا السبب، لم ينتبه إلا قليل من العاملين فيه إلى أن أياً منهم يمكن أن يجد نفسه في أية لحظة، متهماً بجريمة إرهابية لم ترد في خاطره، حتى فى حال إلغاء المادة التي ينصبّ النقد عليها، وليس تعديلها فقط.
وعندما يكون المستوى المهني العام ضعيفاً، يزداد احتمال الوقوع تحت طائلة عقوبة أو أخرى من العقوبات التي يُفرط هذا القانون في تغليظها، بخاصة في أجواء تسودها ثقافة تجعل البحث عن مؤامرة وراء كل كلمة أمراً شائعاً، في ظل موجة تخوين عاتية شارك الإعلام ولا يزال بدور رئيسي في صنعها.
وكان انغماس كثير من وسائل الإعلام في هذه الموجة، أحد عوامل ازدياد التدهور في أدائها المهني، وتحوّلها أدوات دعاية صارخة تُلحق الضرر بنظام الحكم أكثر مما تدعمه، وتمزّق ثياب من يختلفون مع بعض سياساته وليس فقط من يعارضونه، وتوزع اتهامات الخيانة بلا حساب. وفي هذا السياق، تعوّد عدد متزايد من العاملين في وسائل إعلام كثيرة، على النقل من بيانات رسمية وتقارير أمنية صارت بديلاً عن جمع المعلومات واستقصائها وتدقيقها.
لذلك، فعندما تأخر البيان الرسمي في شأن الهجوم الإرهابي على مواقع عسكرية وأمنية في شمال سيناء في 24 يونيو/حزيران الماضي، شاع الارتباك في وسائل إعلام عدة. وأدى ذلك إلى نقل معلومات غير صحيحة من وكالات أنباء أجنبية ومواقع إلكترونية، من دون تدقيق أو تفكير.
ويعني ذلك أن الأداء المهني صار ضحية المناخ العام الذي شارك جزء كبير من الإعلام في صنعه، قبل أن يصدر مشروع القانون الجديد الذي يعبّر عن طبيعة هذا المناخ. ويتحمّل الإعلام مسؤولية أساسية بالتالي، عن هذه الحالة التي سيكون ضمن ضحاياها. وهو يبدو على هذا النحو مثل من يذوق سُماً شارك ولا يزال في طبخه اعتقاداً منه أنه سيبقى بعيداً منه. غير أن قوة هذا السُم باتت أكبر من أن يظلّ أثرها محصوراً في دوائر بعينها.
فقد توسّعت موجة التخوين التي انغمس قطاع كبير من الإعلام فيها. وامتدت في جانبها المتعلّق بالإقصاء، إلى بعض من يُفترض أنهم جزء لا يتجزأ من نظام الحكم، وفي شقّها الخاص بالتشويه والتصفية المعنوية إلى آخرين قريبين منه، بينهم رجال مال وأعمال. وها هي تصل الى الإعلام الذي نفخ فيها على مدى ما يقرب من عامين.
فقد رسَّخ جزء كبير في الإعلام خطاباً أحادياً يتّسم بعنف لفظي لا سابق له كماً ونوعاً في مصر، ويُروِّج لاستئصال جزء من المجتمع من دون تمييز بين من يرتكب جرماً وغيره، وإقصاء كل آخر مختلف.
لقد انشغل هذا الإعلام بالبحث عن مؤامرة وراء كل شجرة، ونشر ثقافة المؤامرة في مجتمع كان قطاع واسع فيه مهيأً لها في لحظة انتقال من أزمة حكم «الإخوان المسلمين» بكل ملابساته، إلى صدمة العنف الإرهابي بكل أخطاره.
وعندما يأتيك حديث المؤامرة من كل فجّ عميق، فإنه يضع قطاعاً من المجتمع في حال فزع وتخبّط، ويزداد الميل إلى التفسير الخرافي لأي نوع من التهديد، ويقل الاهتمام بالبحث عن المشاكل الحقيقية، ويبدو الإرهاب وحشاً خرافياً لا سبيل إلى مواجهته إلا بقوة أمنية مفرطة وقوانين تحمي انفلاتها، ويغيب النقاش الجاد حول أبعاده، والحوار الموضوعي في شأن منهج مواجهته.
فقد فرض ذلك القسم من الإعلام الذي تنكّر لدوره، وأفرط في تفريغ معنى الوطنية من أي محتوى يتعلّق بالانتماء إلى الوطن في هذا العصر، اتجاهاً مُعطّلاً للعقل يتمحور حول فكرة واحدة بسيطة إلى حدّ السذاجة، وهى أن هناك عدواً ينبغي أن نحاربه، وأن هذه الحرب تفرض صوتاً واحداً لا يصحّ أن يعلو غيره. ولم يستوعب دروس تاريخ قريب رُفع فيه شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وكانت نتيجته صادمة في يونيو/حزيران 1967.
وإذا كان الإعلام لم يستوعب في الشهور الماضية، درس مرحلة «صوت المعركة الواحد»، فربما يستخلص في الفترة المقبلة الدرس المتضمّن في الحكمة القائلة: «إن طباَّخ السُم يذوقه».
د.وحيد عبدالمجيد
صحيفة الحياة