انخراط الطلاب والمدرّسين في الحراك الاحتجاجي الجاري في العراق يمنحه بعدا جديدا أكثر تنظيما وأقرب إلى روح الثورة، ويعقّد مهمّة السلطات في مواجهته بالعنف ومحاولة التغطية على ذلك بذرائع ومبرّرات مستهلكة من قبيل وجود مندسّين وقنّاصة مجهولين.
بغداد – أعطى انخراط الطلاب في المظاهرات المناهضة للنظام في العراق الحراك الاحتجاجي زخما إضافيا، بينما منحت دعوة نقابة المعلمين العراقيين للهيئات التدريسية والتعليمية في البلاد للدخول في إضراب عام، الحراكَ ذاته بعدا تنظيميا يقرّبه من التحوّل إلى ثورة بخطوات مدروسة بعيدا عن الطابع العفوي والتلقائي الذي ميّز الاحتجاجات الشعبية إلى حدّ الآن.
وكشفت مصادر عراقية عن وجود مخاوف حقيقية لدى السلطة من انتقال “عدوى” الدعوة للإضرابات من قطاع التعليم وتفشّيها بين مختلف القطاعات المهنية، الأمر الذي قد يؤدي إلى شلل لا تحتمله مؤسسات البلاد المتعبة أصلا ووضعها الاقتصادي الهشّ.
كما تحدّثت ذات المصادر عن حالة من الحيرة الشديدة لدى القادة السياسيين والأمنيين في كيفية مواجهة الطلاب، نظرا لما سينجرّ من عواقب وخيمة على استخدام القوّة المفرطة ضدّهم وإيقاع قتلى وجرحى في صفوفهم، الأمر الذي سيشكّل سقطة أخلاقية يستحيل تبريرها داخليا وخارجيا، باستخدام ذريعة وجود “مندسّين” و”قنّاصة مجهولين” التي استخدمت سابقا لتبرير سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى خلال الاحتجاجات.
ونزل، الاثنين، آلاف الطلاب إلى الشارع في مدن عدة في العراق، من بغداد إلى البصرة في جنوب البلاد مرورا بالديوانية والناصرية، وهتفوا “لا مدارس لا دوام، حتى يسقط النظام”، غير آبهين بتحذيرات السلطات.
وللمرة الأولى منذ انطلاق الحراك الاحتجاجي انضم، الاثنين، طلاب من مدينة بعقوبة كبرى مدن محافظة ديالى شمال شرق بغداد والمتاخمة لإيران إلى المحتجين الذين تجمهروا عند مبنى مجلس المحافظة الذي استقال اثنان من أعضائه تضامنا مع المحتجين.
ومنذ بداية الحراك الشعبي في الأول من أكتوبر الجاري في العراق احتجاجا على غياب الخدمات الأساسية وتفشي البطالة وعجز السلطات السياسية عن إيجاد حلول للأزمات المعيشية، قتل أكثر من مئتي شخص وأصيب أكثر من ثمانية آلاف بجروح، عدد كبير منهم بالرصاص.
وفي بغداد، انتشرت قوات مكافحة الشغب في محيط الجامعات، غداة إعلان القوات المسلحة اتخاذ “إجراءات عقابية شديدة” إذا تم رصد “أي حالة تعطيل متعمّد” في المدارس والجامعات ومؤسسات الدولة.
وأعلن المجلس المركزي لنقابة المعلّمين العراقيين الاثنين الإضراب العام في عموم مدارس العراق لمدة أربعة أيام تضامنا مع المتظاهرين. وكان وزير التعليم العالي قصي السهيل دعا إلى “إبعاد الجامعات” عن الاحتجاجات.
وقال أحد الطلبة لوكالة فرانس برس خلال مشاركته في تظاهرة بساحة التحرير وسط بغداد “لا يوجد وطن.. لا يوجد دوام”. وعلى مقربة منه، قالت إحدى الطالبات “قلت لأمي إنني ذاهبة إلى المدرسة، ولكنني في الحقيقة جئت إلى هنا”.
مخاوف لدى السلطة من تفشّي الدعوة إلى الإضرابات ما سيؤدي إلى شلل لا تحتمله مؤسسات البلاد ووضعها الاقتصادي الهش
وقال متظاهر آخر “نريد حل البرلمان وتشكيل حكومة مؤقتة وتعديل الدستور وإجراء انتخابات نيابية مبكرة بإشراف الأمم المتحدة.. لا نريد حلا آخر”.
وفي الديوانية الواقعة على بعد مئتي كيلومتر إلى جنوب بغداد، قرّر الأساتذة والطلاب في كل الجامعات الحكومية والخاصة تنظيم “اعتصام لمدة عشرة أيام حتى سقوط النظام”.
والتحقت نقابات مهن مختلفة بينها نقابة المحامين ونقابة المهندسين بالاحتجاجات، رغم الإجراءات الأمنية التي تعرقل الوصول إلى أماكن الاعتصامات والتظاهرات. ومن الهتافات التي أطلقت أيضا في بغداد “إيران برّا برّا.. بغداد تبقى حرة”، في إشارة إلى النفوذ الإيراني الكبير بالعراق وتدخّل طهران في قراره السياسي.
وشهدت مدن الحلة والسماوة والنجف تظاهرات طلابية مماثلة. وفي مدينة الناصرية الواقعة على بعد 350 كلم جنوب بغداد، خرج الآلاف من الطلاب من مختلف المراحل الدراسية في احتجاجات مماثلة. وكذلك في مدينة الكوت على بعد 150 كلم جنوبي العاصمة، حيث شاركت الغالبية العظمى من الموظفين الحكوميين وطلبة الجامعات في الاعتصام الذي أقيم في وسط المدينة.
وخرج آلاف الطلبة إلى الشارع في البصرة التي تعتبر سباقة في تفجير حركة الاحتجاج حيث كانت شهدت احتجاجات دامية في صيف العام 2018 للمطالبة بتحسين أوضاع المحافظة التي تحمل الاسم نفسه.
وتعتبر هذه الاحتجاجات غير مسبوقة في التاريخ العراقي الحديث. وقد بدأت بعفوية بسبب الاستياء من الطبقة السياسية برمتها، وصولا حتى إلى رجال الدين. وشهدت التظاهرات أيضا سابقة في العنف الذي واجهتها به السلطات، إذ سقط 157 قتيلا في الموجة الأولى منها بين الأول والسادس من أكتوبر، و74 قتيلا حتى الآن في الجولة الثانية التي بدأت مساء الخميس.
وبهدف مواجهة الأزمة التي شلت النظام السياسي العراقي عقد البرلمان الاثنين جلسة بعد فشله في تأمين النصاب مرات عدة خلال الأيام الماضية.
وجاءت الجلسة غداة إعلان أربعة نواب عراقيين تقديم استقالاتهم من البرلمان رفضا لأداء الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفشل في الاستجابة لمطالب الحركة الاحتجاجية. واستقال النائبان الشيوعيان الوحيدان اللذان حصلا على مقعديهما ضمن ائتلاف سائرون، الكتلة الأكبر في مجلس النواب العراقي والتي يتزعمها مقتدى الصدر، وهما رائد فهمي وهيفاء الأمين، إضافة إلى طه الدفاعي ومزاحم التميمي من قائمة النصر التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
وكان نواب رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بدأوا السبت اعتصاما مفتوحا داخل البرلمان “إلى حين إقرار جميع الإصلاحات التي يُطالب بها الشعب العراقي”.
ووجّه الصدر رسالة الأحد إلى قوات الحشد الشعبي، الفصائل المسلحة التي قاتلت تنظيم الدولة الإسلامية الى جانب القوات الحكومية، ودعاها إلى عدم مواجهة الناس وألّا “تناصر الفاسد”، وذلك بعيد إعلان قيس الخزعلي أنّ ميليشيات الحشد “مستعدة للوقوف ضد الفتنة التي تبغي تدمير العراق ومنجزاته”.
ومنذ الجمعة، أضرمت النيران بعشرات المقار الحزبية والفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي. وقُتل عدد من المتظاهرين برصاص الحراس الذين كانوا يحمون تلك المباني، أو اختناقا واحتراقا خلال محاولة إضرام النار فيها.
وفيما توعد قادة تلك الفصائل بـ”الثأر” بعد مقتل أحد العناصر، اتهمت الأمم المتحدة كيانات مسلحة بالسعي إلى “عرقلة استقرار العراق ووحدته والنيل من حق الناس في التجمع السلمي ومطالبهم المشروعة”.
العرب