بعد ثلاثة عشر يوماً من خروج مئات آلاف اللبنانيين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب إلى الساحات مطالبين بـ«إسقاط الحكومة» وبـ»إسقاط النظام»، وبعد أن عبّر الشعب عن قلّة ثقته، بل قلّة اكتراثه، بمضامين «الورقة الإصلاحية» التي قدّمها رئيس الحكومة سعد الحريري في الأيام الأولى لهذه الانتفاضة، جاءت استقالة الأخير تحت ضغط الشارع الثائر لتمثّل ما اعتبره المحتجون المبتهجون على مسمع هذا النبأ بالأمس، انتصاراً أولياً في حركة كفاحهم من أجل استبدال نظام تمادى في الطائفية والفساد والفوارق الاجتماعية وعلى حافة الإفلاس المالي، بنظام يرضي تطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية كما السياسية.
بيد أن العنصر الحاسم في هذا المشهد أن اللبنانيين المنتفضين تمكنوا هذه المرّة من تجاوز الخط الأحمر الذي وضعه أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله على إسقاط الحكومة، والذي ترجم بالأمس، باعتداء أنصاره وأنصار رئيس المجلس النيابي نبيه برّي على المعتصمين في الساحات. وقد سبق مشهد الخيم المحترقة في «رياض الصلح» خروج الرئيس الحريري بالأمس ليعلن استقالته.
وإذا كان المتظاهرون عادوا مباشرة إلى الساحات بعد نجاح القوى الأمنية في إبعاد مهاجمي حركتي أمل وحزب الله منها، تطرح نفسها علامات الاستفهام التي تطرح حول أسلوب تعاطي «حزب الله» وأمل مع الشارع المنتفض ومع الاستحقاقات الآتية بعد استقالة الحريري، لا سيما وأنّ حزب الله كان يصر، خلال الأسبوعين الأخيرين، على بقاء الحريري رئيسا للحكومة، ويحذّره، بل يهدّده إذا ما فكّر بالاستقالة في الوقت نفسه.
لن يكون من السهل في ضوء المعطيات الحالية تشكيل حكومة جديدة، رغم التداول بسيناريوهات عديدة، منها ما يبقي الحريري على رأس الحكومة المقبلة، ومنها ما يرتئي صيغا أخرى، أو يأخذ بمطالبة قسم كبير من الرأي العام بحكومة انتقالية من التكنوقراط لإنقاذ الوضع المالي والتحضير لانتخابات نيابية مبكرة.
بالتوازي، يتواصل التهديف من جانب «محور الممانعة» على قائد الجيش العماد جوزيف عون، ويجري تحميله أكثر فأكثر مسؤولية تصاعد الانتفاضة، وتمكنها من قطع الطرقات، كما تعمّق الخلاف بين قائد الجيش ورئيس الجمهورية ميشال عون، مثلما شهدت «العائلة الرئاسية» تفسخا بين الصهرين، جبران باسيل، الذي يحوز على دعم عمه، وبين شامل روكز وزوجته كلودين عون، بالإضافة إلى شقيقتها ميراي، إذ بات هؤلاء يشكلون ما يشبه «الانتفاضة داخل العائلة الرئاسية نفسها».
سنياً، ومع تراجع شعبية الحريري خلال الأسبوعين الأخيرين، إلا أن نبأ الاستقالة والأيام المقبلة كفيلة بأن تعود فتمنحه نوعا من التعاطف أو المظلومية، في حين يصعب على جبران باسيل، رئيس التيار العوني، أن يستحصل على مثل ذلك. بالعكس، الاتجاه الأبرز هو ليكون باسيل الخاسر الأكبر من الانتفاضة الحالية. إلا أنّه ما زال يحظى بدعم «حزب الله» ورضا رئيس الجمهورية.
الحكومة المستقيلة سيعهد إليها تصريف الأعمال إلى حين تشكيل واحدة جديدة، وقد اعتاد لبنان على فترات طويلة يكتفى فيها بتصريف الأعمال. إلا أنّ الفترة المقبلة لن تكون كسابقاتها، لأن الانتفاضة الشعبية اللامركزية والواسعة على هذا النحو غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد، ولأنّ مطالبتها بإسقاط الحكومة فرع على أصل هو المطالبة بإسقاط النظام، وهو ما يعني نظام الحكم بالدرجة الأولى، أو ما يصفه فريق عون بـ«العهد»، لكن أيضاً الانتقال تدريجياً نحو نظام سياسي جديد، أقل خضوعاً لأمرة السلاح الفئوي ولاءاته، وأكثر استجابة للإرادة الشعبية، سواء التي تعبّر عن نفسها عبر صناديق الاقتراع، أو التي تنجح في إحداث التغيير في الساحات.
تمكنت الانتفاضة اللبنانية من تحقيق أولى أهدافها، وما زال عندها الكثير، والمستقبل القريب يبقى غامضا.
القدس العربي