لم يكن في حسبان حكام إيران أن تندلع احتجاجات شعبية عارمة متواصلة في العراق ولبنان، ويجتمع فيها مكوّنات وأطياف كلّا البلدين. سيّما أن الخطورة التي يخشاها النظام الإيراني وأتباعه، أن يقف الشيعة ضدهم، لأن ذلك يُربك ويؤثر على المخطط المرسوم والأهداف الخفية. إذ إن تمهيدات المشروع السياسي، الذي من خلاله عملت إيران على مدّ نفوذها في المنطقة العربية، يرتكز أساساً على المحاور الرئيسة التالية:
أولاً: تقديم الهويَّة الطائفيَّة وتأخير الهويَّة الوطنيَّة.
ثانياً: فكرة وحدة المذهب الشيعي.
ثالثاً: تسويق مبدأ إيران حامية الشيعة حول العالم.
من هنا، استطاعت إيران من بسط أرضية لها، ولقد تجلى ذلك في أربعة بلدان عربية، العراق وسوريا ولبنان واليمن. خصوصاً أن إيران استغلت تراجع الأمن القومي العربي من جانب، وتوظيفها للمناخ الدولي وفق مصالحها الخاصة من جانب آخر. فتارة تتوافق إيران مع سياسات الولايات المتحدة في غزو العراق، ومحاربة الإرهاب. وتارة أخرى تتلاءم مع سياسات روسيا في الوجود العسكري داخل سوريا، أو مع الصين في خطة “طريق الحرير” الاقتصادي نحو البلدان العربية، وهكذا.
إذا حقق نظام الملالي الإيراني وجوده الخارجي عبر دعمه بالمال والسلاح إلى المجموعات المرتبطة به، وبواسطتها تمكنت من فرض الواقع السياسي المسلح، فإن منهج إقصاء الآخرين وإظهار التغلب عليهم والسيطرة على مقدرات الدولة والبلاد، تخلق تضاداً ينعكس سلباً ليس فقط على النواحي السياسية، بل على مجمل الشؤون الاجتماعية والحياتية والاقتصادية أيضاً، لا سيما مع وضع الفساد المالي والإداري في الحكومة والسلطة، التي تلعب فيها تلك المجموعات السياسية المسلحة دوراً كبيراً، ناهيك عن تمشية مصالح إيران على حساب مصالح الشعب والوطن، وعلى كافة المستويات المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة.
وبنظرة إجمالية، تجد أن الدول العربية التي وصل إليها المشروع السياسي الإيراني، تعاني الاضطراب السياسي والفساد المالي والتدهور الاقتصادي والغموض المستقبلي. وعلى الرغم من وجود مشتركات أدت إلى اندلاع التظاهرات والاحتجاجات لدى الشعبين العراقي واللبناني، منها عمليات الفساد المزمنة واستمرار التردي الاقتصادي والتراجع الخدمي وغيرها، جراء الطبقة السياسيَّة الحاكمة سواء المرتبطة بإيران أو الخاضعة للهيمنة الإيرانية، فإن هناك أسبابا خارجية جوهرية أخرى، ساعدت بدورها في تبلور هذا الانفجار الشعبي، الذي بدأت شرارته الشعبية في بغداد وبيروت وامتدت إلى عموم بلديهما، ومن أهمها ما يلي:
أولاً: العقوبات الأميركية على النظام الإيراني، التي فرضتها إدارة ترمب منذ مايو (أيار) 2018، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بخروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، الذي يراه لا يتوافق ومصالح الأمن القومي لبلاده. وأخذت العقوبات بالتوسع والتشدد التدريجي من الحقل الاقتصادي إلى الحقول التجارية والنفطية والمالية وغيرها، فضلاً عن إدراج الحرس الثوري الإيراني بصفته كيانا إرهابيا معاديا، مما لاحت تأثيراتها على السلطات الإيرانية، وانعكاساتها على المجموعات المرتبطة بها.
وفي هذا الصدد، يكفي أن نذكر بضعة نقاط مهمة، منها التضخم الاقتصادي الذي وصلت نسبته إلى 50%، وهو ما لم تشهده إيران منذ عام 1979. وكذلك العملة الإيرانية (التومان) التي فقدت 30% من قيمتها، وآخذة بالهبوط. في خارج المُدن غير الصناعية، وصلت نسبة إلى البطالة إلى أكثر من 40%. وإلغاء الدعم الحكومي عن نصف الشعب، ورفع الأسعار بشكل عام، فالمحروقات ارتفعت إلى 50% من سعرها، وغيرها.
ثانياً: مجابهة السعودية للمشروع الإيراني وتمدده في البلدان العربية من جهة، وقيادتها للتحالف العسكري العربي من جهة أخرى، وذلك بدعم الشرعية اليمنية ضد الحوثيين الانقلابين المرتبطين بالنظام الإيراني. وكانت النتائج على أرض الواقع، إنجازات ميدانيَّة وسياسيَّة لصالح الشرعيَّة في اليمن، وانحسار وتراجع وخسائر فادحة لحقت بالحوثيين.
ثالثاً: موقف الاتحاد الأوروبي تجاه إيران، إذ بالقدر الذي أبدت فيه أوروبا مساعدتها لإيران في مواجهة العقوبات الأميركية، لكن كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا صاغت الأمر عبر “شركة اينستكس”، التي تأخذ عائدات صادرات النفط الإيراني وتقوم بعمليات شراء الغذاء والدواء…الخ. كما على إيران أن تنضم إلى “معاهدة مكافحة الإرهاب وغسل الأموال” لتفعيل عمل اينستكس. إلّا أن إيران رفضت العرض الأوروبي، لأنه سيقيد تحرك الحرس الثوري الإيراني، مركز الثقل الإرهابي والمجموعات والتنظيمات الإرهابية المرتبطة به؛ فضلاً عن خسارة الملالي بالتحكم المالي.
إن الأسباب الآنفة الذكر المتعلقة بإيران، فضلاً على الأوضاع والمشتركات التي يعانيها عموم الشعبين في لبنان والعراق، أدت بهم للنزول إلى الشارع في تظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة النطاق ضد الطبقة السياسية الفاسدة، وضد القبضة الإيرانية عبر أذرعها الطائفية المهيمنة على مقدرات البلاد.
إن الأول والسابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الذي تحركت فيه بغداد واستجابت له بيروت لإسقاط حكومتيهما بطريقة سلميَّة، وما ترتب على ذلك من عنف مقصود بحق المتظاهرين المدنيين (سلبي في لبنان، ودموي في العراق)، ومواجهة ومجابهة الأذرع الإيرانية، يعني التحدي الشعبي في تحطيم وهدّم جدران إيران في هذين البلدين العربيين.
وفق منطق التاريخ وحقائقه الثابتة، إن إرادة الشعوب الأصيلة هي التي تنتصر على الدخلاء والعملاء، واستخدام القوة والبطش ضدهم لا تقهرهم ولا تكسرهم، بل تزيدهم عزيمةً واصراراً، لأنه تحدّي يخص وجودهم ومستقبلهم، ولهم القدرة على الاستجابة.
وكما برهنت بغداد وبيروت، تاريخيا، قدرتهما على التحدّيات الخارجية والانتصار عليها، فإن ما يجري اليوم في عموم لبنان والعراق يصب في ذات المنحى والاتجاه، إنه انسياب كلي يخص وجوديَّة العرب عبر تاريخهم الحافل الطويل.