لم يكن اندلاع التظاهرات بالمنطقة العربيَّة منذ عام 2011 في عددٍ من الدول العربيَّة مثل البحرين وسوريا ومصر، ثم تجددها مؤخراً في دولٍ أخرى مثل لبنان والعراق، إلا ظروفاً عاكسة لازدواجيَّة التناول الإيراني لهذه التظاهرات، إذ تراوح الموقف الإيراني ما بين دعم وتأييد التظاهرات في مصر والبحرين، وشجبها والتنديد بها في لبنان والعراق، بل وصل الأمر إلى حدّ التدخل العسكري والميداني لوأدها كما حدث بسوريا، التي شهدت حرباً امتدت ثماني سنوات، ولم تنتهِ حتى الآن.
حينما اندلعت التظاهرات في مصر باركها المرشد الأعلى علي خامنئي، وتحدَّث بالعربيَّة عن مصر، وأن ما حدث بها هو “نوعٌ من الصحوة الإسلاميَّة المتأثرة بالثورة الإيرانيَّة”، ومع انتقال التظاهرات إلى عددٍ من الدول العربيَّة اعتبر حينها أن التظاهرات التي جاءت متأخرة إنما جاءت من “رحم وأفكار الثورة الإيرانيَّة، وأنها قامت ضد الأنظمة المعاديَّة إيران”، ونتج عن هذا الموقف المُعلن انفتاح إيران على العلاقات مع مصر في أثناء حكم جماعة الإخوان المسلمين، وتبادل الزيارات بين الرئيسين أحمدي نجاد ومحمد مرسي.
ومع اندلاع بعض التظاهرات في البحرين تدخَّلت إيران في الشؤون الداخليَّة للبحرين بشكل سافر، ودعَّمت الجماعات المتظاهرة، إلى أن اتهمت دول مجلس التعاون الخليجي إيران بدعمها الجماعات الشيعيَّة في دول الخليج لإحداث اضطرابات وعدم استقرار داخلها.
ومع انتقال التظاهرات إلى سوريا، تغيَّر الموقف الإيراني الذي كان يرفع شعارات الصحوة المتأثرة بالثورة الإيرانيَّة، واعتبر أن ما حدث بسوريا هو “مؤامرة من الدول الغربيَّة لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد”.
وتدخَّلت إيران في الحالة السوريَّة على النحو الذي وظَّفت فيه كل أدواتها الاقتصاديَّة والعسكريَّة والسياسيَّة، وانخرطت في المفاوضات المرتبطة بالمسار السياسي، بل وُجِدت ميدانياً في الحرب السوريَّة للدرجة التي معها أُعلن عن وقوع قتلى إيرانيين وشخصيات منتميَّة إلى قوات (فيلق القدس) التابع إلى (الحرس الثوري) الإيراني.
وعلى الرغم من تبرير التدخُّل الإيراني برغبتها في حمايّة المزارات الشيعيَّة، فإنه مع إطالة أمد الحرب تجلَّت الرغبة الإيرانيَّة في البقاء للحفاظ على المصالح والمكاسب الإيرانيَّة في سوريا من جهة، واستخدام الملف السوري للتعامل معها باعتبارها مِفتاحاً لحل الأزمة.
ومع اندلاع التظاهرات في لبنان خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2019 والعراق كذلك، تحدَّث المرشد الإيراني مرة ثانيّة مع استخدام المفردات ذاتها كما في الحالة السوريَّة، فقال معلقاً على الأحداث بلبنان والعراق خلال مراسم تخريج دفعة جديدة من ضباط جامعات الجيش في الجمهوريَّة الإيرانيَّة، متحدثاً عمَّا سمَّاه “مخططات الأعداء لإثارة الفوضى وتقويض الأمن في بعض دول التي وراءها الولايات المتحدة وأجهزة الاستخبارات الغربيَّة”.
كما وجَّه خطابه إلى الشعبَين اللبناني والعراق، قائلاً “الأولويَّة الرئيسيَّة هي معالجة اضطراب الأمن، وليعلم شعبا هذين البلدين بأن العدو يسعى لتقويض الآليات القانونيَّة وخلق الفراغ فيهما، لذا فإن الطريق الوحيد لوصول الشعب إلى مطالبه المشروعة هو متابعتها في أطر الآليات القانونيَّة”.
ليس هذا فحسب، بل إنه ثمَّن دور الجيش الإيراني والحرس الثوري، وقارنه بدور الجيش الأميركي أو البريطاني عند التدخل في بعض الحالات، على أن تدخل الحرس الثوري يتّسم بالنجاح في جميع الساحات التي تدخل بها، بل اعتبره دعماً للمقاومة، أي أنه يبرر التدخل في شؤون الدول الداخليَّة، بما له من تأثيرٍ على ديناميكيات الأوضاع بداخلها وتعقيدها، التي تكرّس الانقسامات داخل تلك الدول، إذ إن التدخل الإيراني يكون لصالح فصيل أو طرف في مواجهة الآخر، ورغم ذلك يبرره بأنه دعمٌ للمقاومة، بما يوضح إصرار إيران على عدم الانتباه إلى كون كثير من مفرداتها المرتبطة بالمقاومة والمستضعفين تلاشى تأثيره، ولم يعد له معنى في بيئة إقليميَّة صارت تضج بالصراعات على أُسس مذهبيَّة وعرقيَّة، ومن ثمَّ لم تعد لتلك الشعارات أي أهميَّة.
وبالتالي لو كانت تلك التظاهرات اندلعت في إحدى الدول غير المتوافقة مع إيران لكانت دعَّمتها، واعتبرتها حقاً مشروعاً، بل تحاول التدخل بدرجات حيثما تكون المصالح الإيرانيَّة، على حسب درجة تأثر حلفائها الإقليميين سواء كان هؤلاء الحلفاء من الدول كما في حالة سوريا أو جماعات وميليشيات كما يحدث في حالة (حزب الله) بلبنان و(الحوثيين) باليمن.
لم تكن التظاهرات التي اندلعت وتتجدد بالمنطقة العربيَّة منذ عام 2011 وحتى الآن سوى فرصة لإيران لتقديم دعم ومساندة حلفائها، ومن ثمَّ مصالحها الإقليميَّة، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن تناقض معايير وازدواجيَّة السياسة الخارجيَّة الإيرانيَّة تجاه القضيَّة نفسها.
اندبندت العربي