قلنا في مقالنا الأخير، الذي تزامن مع بداية الموجة الثانية من احتجاجات الت الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، بأن المناورة لدى الطرفين: الدولة والمحتجون، محدودة مع حالة الانسداد السياسي القائمة، وفي سياق الإصلاح المستحيل، وحالة الغضب والإحباط التي تسيطر على المجتمع كله، مع الرفض الذي أظهره المحتجون للطبقة السياسية جميعها، وهو ما يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات! قلنا أيضا إن جملة عوامل موضوعية ستكون الفيصل في مآلات هذه الحركة الاحتجاجية؛ من بينها أعداد المحتجين، وطبيعة الانتشار الجغرافي، وطبيعة تعاطي القوات العسكرية والأمنية معها، وحدود المواجهات التي يمكن أن تحصل في حال إصرار المحتجين على الوصول إلى أهداف محددة (من بينها المنطقة الخضراء أو السفارة الإيرانية)، وأخيرا الامتداد الزمني لها، وإمكانية وصولها إلى حركة عصيان مدني.
واليوم، وبعد أسبوع كامل، يبدو أن الأمور قد بدأت عصية على الاحتواء الذي راهنت عليه السلطة/ الدولة، بكامل سلطاتها! فأعداد المحتجين تزايدت، لتتحول من مظاهرات فئة محددة (اعتمدت بشكل رئيس على الشباب بين سن 16 ـ 28) كما كان عليه الأمر في مظاهرات الموجة الأولى إلى احتجاجات عامة وشاملة يشارك فيها الطلاب والنقابات، وهو أمر غير مسبوق، وغير متوقع. فتاريخيا، كانت الجامعات ونقابات العمال في العراق نواة الحركات الاحتجاجية، ونواة إنتاج هوية وطنية عابرة للهويات الفرعية، ولكن الأنظمة الشمولية، تحديدا بعد العام 1968 استطاعت القضاء على هذا التقليد تماما! وهذا الدخول غيّر تماما من طبيعة الاحتجاجات التي صنع موجتها الأولى شباب العشوائيات و«التك تك»، و«الچنابر» (بائعو الأرصفة)، ليعيد صياغة العلاقات الاجتماعية بطريقة لم يكن يتخيلها أحد، ولتتحول الحركة الاحتجاجية إلى حراك اجتماعي كامل. كما أن هذا الدخول، وبهذا الأسلوب الذي شكل تحديا للسلطة/ الدولة حيث لجأت إلى التهديد أولا بفصل كل طالب أو موظف يشارك في الاحتجاجات وينقطع عن الدوام، ثم اللجوء إلى إعلان حظر التجوال الذي تحول إلى عمليا إلى دعوة للخروج إلى الشوارع! وهذا الدخول أفقد السلطة/ الدولة عنصرا رئيسيا في خطابها «التقليدي» عن المؤامرة والمندسين وأبناء السفارات!
أما الظاهرة الثانية التي بدأت بالتشكل بسرعة غير مفهومة، فهي هذا الصعود غير مسبوق لهوية شيعية وطنية عراقية، تحاول تعريف نفسها، ووعي ذاتها، من خلال التمايز عن نموذج الهوية الشيعية الأممية، العابرة للحدود والأوطان التي حاول الإيرانيون، وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية في العراق، تسويقها خلال السنوات الماضية. وقد بدا ذلك واضحا من خلال طبيعة الأهداف التي تمت مهاجمتها في الموجة الثانية من الاحتجاجات، والتي تمثل مقرات الأحزاب والفصائل المسلحة التي ارتبطت بتسويق النموذج الهوياتي الأممي، ومن خلال هذا الإصرار على رفع الأعلام العراقية بشكل مكثف ومقصود، وصولا إلى مهاجمة الأيقونات الدينية الإيرانية مثل صور الخميني والخامنئي، وشعار (إيران برا.. برا)، والهجوم على القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء، ومحاولات الوصول إلى السفارة الإيرانية في بغداد.
وقد سبق أن لمحنا إلى بعض المؤشرات على بوادر تشكل هذه الهوية في مرات سابقة (في خطابات السيد علي السيستاني أو من خلال خطاب بعض القوى السياسية).
النوع الثاني من الأهداف التي تمت مهاجمتها، هي بنايات مجالس المحافظات، وبنايات الحكومات المحلية، بوصفها رموزا لفساد السلطة/ الدولة ككل! لاسيما مع التباين الطبقي الحاد الذي تشهده المحافظات الجنوبية، والذي لا يشبه سوى التباين الطبقي الذي أنتجه النظام الإقطاعي بين الثلاثينيات ونهاية الخمسينيات في هذه المحافظات. وذلك بسبب اختلاف طبيعة الفساد في هذه المحافظات عنه في المحافظات الأخرى، تحديدا المحافظات السنية! ففساد الفاعل السياسي الشيعي، وعلاقاته الزبائنية، فساد مستوطن، قابل للرؤية العيانية، بسبب من طبيعة النظام السياسي وهيمنة الفاعل الشيعي فيه، في حين فساد الفاعل السني فساد مهاجر، بسبب الخوف وعدم الثقة، لهذا يبدو بعيدا عن التحقق العياني!
ما زالت السلطة/ الدولة في حالة انفصال تام مع ما يحدث على الأرض، وذلك عبر اعتمادها العنف المفرط في مواجهة المحتجين، وهو ما زاد من حدة الغضب الشعبي ضدها، وشكل عاملا حاسما في زيادة التأييد الشعبي لحركة الاحتجاج
في مواجهة ذلك كله، ما زالت السلطة/ الدولة في حالة انفصال تام مع ما يحدث على الأرض، وذلك عبر اعتمادها العنف المفرط مرة أخرى في مواجهة المحتجين، وهو ما زاد من حدة الغضب الشعبي ضدهم، وشكل عاملا حاسما في زيادة التأييد الشعبي لحركة الاحتجاج. ففي الأيام الثلاثة الأولى من موجة الاحتجاج الثانية التي بدأت يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر، وثقت مفوضية حقوق الإنسان الرسمية سقوط 74 ضحية، و3654 إصابة دخلت المستشفيات! لتصل الأرقام إلى 100 ضحية وأكثر من 5500 مصاب حتى يوم الأربعاء 30 تشرين الثاني/ أكتوبر! وهذه الأرقام تفضح مرة أخرى محاولات السلطة/ الدولة التغطية على هذه الجرائم وتمرير روايتها عبر التقرير/ المهزلة الذي قدمته لجنة التحقيق في أحداث الموجة الأولى من الحركة الاحتجاجية، كما تفضح الادعاءات التي تم تسويقها حول عدم وجود أوامر صريحة باستخدام القوة المميتة ضد المحتجين! أو عبر محاولاتها اللجوء إلى التهديد، والتقييد، من خلال إعلانها عن معاقبة الموظفين والطلبة الذين يشاركون في الاحتجاجات، أو عبر إعلانها حظر التجول، وهو ما ساهم في اندفاع الجمهور أكثر للمشاركة فعليا في حركة الاحتجاج!
ولا تزال السلطة في العراق رغم كل ذلك غير مهتمة بالاستجابة لمطالب المحتجين، بل استغلت ذلك عبر خطابات سياسية عبثية فارغة من أجل كسب الوقت وتخدير الجمهور، فيما سعى أقطابها، في معمعة الاحتجاجات، تمرير صفقاتهم الخاصة، مستغلين ما يحدث؛ ففي موجة الاحتجاج الأولى تم تمرير صفقات فاسدة متعلقة بالوزارات، تحديدا وزارة التربية، كما تم تمرير قانون إلغاء مكاتب المفتشين العموميين الذي كان يؤرق المستثمرين سياسيا في الوزارات المختلفة!
اما موجة الاحتجاج الثانية فقد تم خلالها تمرير صفقات تشكيل مجلس الخدمة الاتحادية وشبكة الإعلام العراقي، لصالح المهيمنين على القرار داخل مجلس النواب، وعلى أساس المحاصصة الحزبية والشخصية أيضا هذه المرة، خاصة بعد تحول المحاصصة من الطائفة إلى المستثمرين سياسيا باسم الطائفة!
كما بدت السلطة/ الدولة حريصة، مع فظاعة ما حدث، على استمرار الوضع القائم بدون أي تغيير حقيقي، فرئيس مجلس الوزراء مصر على عدم الاستقالة حتى اللحظة! والبرلمان العراقي يبدو أكثر إصرارا على البقاء، خاصة وأن الدستور العراقي حصر صلاحية حل البرلمان في البرلمان نفسه! وكان من الواضح من خلال الإنشاء السياسي الذي وجدناه في كلمة رئيس الجمهورية يوم الخميس 31 تشرن الأول/ اكتوبر أن السلطة ليس لديها سوى حلول ترقيعية شكلية تكرس الوضع القائم الذي كان ولا يزال السبب الرئيس في اندلاع حركة الاحتجاج الحالية.
لقد واجهت الموجة الأولى من الاحتجاجات نوعا من الصلادة الشكلية في موقف القوى السياسية كافة منها، ولكن يبدو أن هذه الصلادة بدأت بالتصدع، خاصة بعد الموقف الصارم الأخير للسيد مقتدى الصدر تجاه الحكومة من جهة، و دعوته إلى الانتخابات المبكرة من جهة ثانية، وذلك بسبب طبيعة العلاقة التي تربطه بجمهوره، والتي لا تجعله قلقا من نتائج أية انتخابات!
مع هذا يبدو من الصعب توقع أن تنضم قوى أخرى إلى هذا الموقف، لأن لا ضامن بأنها يمكن أن تعود بالقوة نفسها التي هي عليها الآن، خاصة إذا ما تم اللجوء إلى قانون انتخابات يضمن العدالة، ومفوضية انتخابات بديلة قادرة على ضمان النزاهة والشفافية!
في ظل هذا كله تبدو خارطة الطريق الوحيدة المتاحة لإرضاء المحتجين من جهة، ولعدم انتهاك السياقات الدستورية من جهة ثانية هي الخطوات الأتية وفقا للتسلسل الزمني:
أولا: استقالة الحكومة لتتحول إلى حكومة تصريف أمور يومية.
ثانيا: الاتفاق على شخصية مستقلة، تكنوقراط، يتم تكليفها بتشكيل وزارة تكنوقراط مصغرة لا تزيد عن 12 وزيرا، ولا يحق لأي منهم الدخول في الانتخابات أو تشكيل أحزاب سياسية تشارك في الانتخابات، يكون أول قراراتها إقالة وكلاء الوزارات الممثلين للأحزاب والقوى السياسية كافة.
ثالثا: حل البرلمان لنفسه تحت ضغط المرجعية والجمهور (لاستحالة أن يحل البرلمان بقرار ذاتي).
رابعا: تكلف الحكومة شركة محاسبة عالمية للتدقيق في آليات صرف المال العام، والعقود، بداية من 1 تموز/يوليو 2004 إلى نهاية ولاية الحكومة المستقيلة.
خامسا: حل مفوضية الانتخابات بقرار حكومي (الحكومات في حالة حل البرلمان يحق لها تشريع قوانين إجرائية مؤقتة)، وتشكيل مفوضية انتخابات من شخصيات مستقلة، وخبراء دوليين، لإدارة الانتخابات التي لا يجب أن تتجاوز 6 أشهر.
سادسا: تشريع قانون انتخابات مؤقت يضمن النزاهة والشفافية التي افتقدتها الانتخابات السابقة جميعها.
فخريطة الطريق هذه وحدها يمكن أن تخرج العراق من المأزق الذي وصل اليه، وبعكسه فان الجميع ذاهب إلى المواجهة.
القدس العربي