أضاعت العديد من القوى الدولية، طيلة الأشهر الماضية، الكثير من جهودها في المشاحنات حول ما إذا كان يجب على أميركا إبرام اتفاق نووي مع إيران، دون قيامها بخطوات فعلية لوقف ذاك الاتفاق”. لكن على خلاف الجميع يبدو أنّ السعوديين يدركون أكثر من غيرهم أنّ هدف الحكومة الإيرانية النهائي من هذا الاتفاق هو الهيمنة الإقليمية وأنّ برنامجها النووي هو مجرد وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وفق تحليل للخبير في شؤون الشرق الأوسط، مايكل توتن، نشر بمجلة “شؤون دولية” الأميركية.
توجد في منطقة الشرق الأوسط خمس مناطق ساخنة أو “ممزقة”، كما يسميها روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا”، وهذه المناطق هي الأكثر عرضة للصراع من غيرها، حيث أنّ لها إمّا حدودا غير مستقرة وإما حدودا من السهل اختراقها مما يجعلها عرضة للتدخلات الأجنبية، خاصّة الإيرانية، وهي مناطق تحتاج فيها الحكومات المركزية إلى مزيد من الوقت والجهود لضبطها على اعتبار أنّ كل شيء مكبّل هناك جراء حالة عدم الاستقرار المزمنة.
ومع تأجج الصراعات في تلك المناطق، أضحى جليا أنّ الحكومة الإيرانية تدعم الميليشيات والجماعات الإرهابية التي تشارك في تلك النزاعات، خاصة في العراق وسوريا. وقد أوضح كابلان في كتابه “أنّ عدم الاستقرار الذي تسببه إيران سوف لن يؤدي إلى انفجار الأوضاع على الصعيد المحلي، ولكن بالنسبة إلى أمة قوية ومتماسكة داخليا ومندفعة نحو الخارج انطلاقا من جغرافيتها الطبيعية قد تتسبب في تحطيم المنطقة من حولها”.
وهذا الدور الذي تلعبه إيران، هو الكامن وراء اعتبارها مشكلة بالنسبة إلى صانعي السياسة الأميركية الخارجية، وهذا هو السبب أيضا وراء تخفيف العقوبات التجارية والتي لن يكون لها تأثير على الإطلاق على النظام الدولي للتفتيش عن الأسلحة.
تدخلات سافرة
لا يخفى على أحد أنّ القيادات الإسلامية التي استولت على الحكم في إيران بقيادة الخميني سنة 1979، قد سعت منذ ذلك الحين إلى لعب دور “خبيث” في الشرق الأوسط.
وقد بدأ ذلك الدور في التشكّل على أرض الواقع منذ سنة 1982، عندما بدأ قادة الحرس الثوري الإيراني في إنشاء شبكة من الخلايا الإرهابية وجماعات لحرب العصابات في صفوف أبناء الطائفة الشيعية في لبنان.
وكان حزب الله “ثمرة مسمومة” لتلك الجهود الإيرانية، وعندما تم الإعلان عن ولادته سنة 1985، لم يخجل قادة الحزب من إخبار العالم بأنهم يعملون لصالح إيران. وورد في نص البيان “نحن حزب الله، والطليعة الذين نصرهم الله في إيران، نحن نطيع أوامر قائد واحد، هو الحكيم والعادل، وهو مرشدنا وفقيهنا الذي يستوفي جميع الشروط اللازمة: روح الله الموسوي الخميني”.
ويعتبر حزب الله أكثر من مجرد منظمة إرهابية معادية للغرب، وإنما هو أيضا ميليشيا شيعية طائفية لا تتوانى في فرض إرادتها على السنة والمسيحيين والدروز في لبنان تحت تهديد السلاح ويمثل الحزب، الفيلق الأجنبي من الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. وتعتبر سيطرته على أجزاء من البلاد، أشبه بدولة داخل الدولة وهو تكريس للسيطرة الفعلية لإيران داخل لبنان.
أمّا في العراق، فبعد إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام حسين في عام 2003، استنسخ الإيرانيون التجربة اللبنانية في العراق، عن طريق رعاية مختلف الميليشيات الشيعية الطائفية وفرق الموت التي خاضت حربا ضد الحكومة العراقية والجيش الأميركي، والمدنيين السنة، والسياسيين الشيعة المعتدلين.
ولكن على خلاف لبنان، الذي ينقسم بالتساوي بين مسيحيين وسنة وشيعة، يتكون العراق من أغلبية شيعية تميل إلى الاتحاد مع الشيعة في إيران على حساب مواطنيهم السنة.
وقد اقتربت الحكومة المركزية في بغداد، بشكل ملحوظ، من طهران في السنوات الفارطة. وعلى خلاف لبنان الذي عمل فيه الإيرانيون على إقامة تنظيم أشبه بدولة داخل الدولة، يحاول الشيعة في العراق الهيمنة على بغداد بالاعتماد على الثقل الديمغرافي الكبير للشيعة. لكن إيران غير راضية عن مجرد إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع جارتها، حيث أنها ما تزال ترعى الميليشيات الشيعية الطائفية في وسط البلاد وجنوبها. وهي تطمح إلى أن تحل تلك الميلشيات محل الجيش الوطني العراقي.
ولئن يعتبر التدخل الإيراني في العراق مكشوفا فهو سافر بدرجة أوضح في سوريا التي يقيم فيها نظام الأسد، تحالفا وثيقا مع طهران منذ الثورة الإسلامية عام 1979 التي جاءت برجال الدين إلى السلطة.
وقد أنتج ذلك التحالف حزب الله في مرحلة أولى، ومن ثمّ شكل ثلاثتهم ما يسميه المحلل لي سميث، في كتابه “الحصان القوي” بـ”كتلة المقاومة”. ويعلن حزب الله دائما أنّه ما كان ليوجد لولا الدعم المالي والسلاح الإيراني، كما أنه ما كان ليوجد لولا دمشق كمركز لوجستي يربط بينهما. وكان يمكن أن تنتهي صلاحيته منذ عقود، لولا أن سوريا غزت لبنان وضمته إليها بشكل فعال في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وهو ما يجعله ينخرط بكل طاقته في الحرب السورية.
أمّا في اليمن، وفي الوقت الذي كانت تقاتل فيه الميليشيات الشيعية من أجل البقاء في بلاد الشام، فقد سعت من دائرة معاركها إلى شبه الجزيرة العربية.
وتولى الحوثيون المدعومون من إيران السيطرة على العاصمة اليمنية، صنعاء، في وقت سابق من هذا العام، ولاحقا على مناطق أخرى من البلاد، إلى أن تم دحرها عسكريا عن طريق تحالفا عربي بقيادة السعودية.
ويسعى الحوثيون إلى السيطرة على كل شبر من البلد أكثر من أي وكلاء آخرين لإيران في المنطقة. ويبذل السعوديون أقصى ما في وسعهم للحؤول دون ذلك.
انزعاج سعودي
تعتبر المملكة العربية السعودية البلد الأكثر انزعاجا من التوسع الإيراني في المنطقة والأكثر وعيا بخطورة هذا المخطط، وهي الأقدر على التصدي له، وذلك لأسباب وجيهة، أهمها أنّ السعودية هي البلد العربي الوحيد الذي لم يتعرض إلى اضطرابات، أو فتنة طائفية من جانب الأقلية الشيعية المدعومة من إيران، على الرغم من أن الأحداث في اليمن يمكن أن تغير هذه المعطيات.
وعلى الرغم من أن الشيعة لا يمثلون نسبة كبيرة من سكان المملكة السعودية إلاّ أنّ إيران يمكن أن تلعب على وترهم من أجل إثارة الفتن.
وإذا امتدت المغامرة الإيرانية إلى المملكة العربية السعودية، فسوف تتشظى المنطقة التي يقطنها السنة والشيعة، وسوف تتحول المنطقة التي تمد العالم بالنفط إلى منطقة ممزقة. كما أنّ السعودية لن تسكت على ذلك وستكون جاهـزة لرد الفعل وفـق كلّ الاحتمالات.
وترتفع وتيرة القلق السعودي والعربي عموما بالتزامن مع “عقد صفقة” الاتفاق النووي بين أميركا وإيران، فعلى الرغم من أنّ السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط تعلن أنها تركز الآن على أمرين، هما احتواء داعش ومنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، إلاّ أنّ ذلك لا يقنع حلفاءها العرب، خاصة أنّ رفع العقوبات على إيران كجزء من الاتفاق النووي، سواء تمكنت من إنتاج القنبلة النووية أو لا، سوف يوفر لها المزيد من المال والموارد لدعم حزب الله، ونظام الأسد والميليشيات الشيعية في العراق، والحوثيين في اليمن، وربما الأقلية الشيعية في المملكة العربية السعودية وغيرها. وسوف تصبح المنطقة أقل استقرارا ممّا هي عليه الآن. ومن المرجح أن يكتسب كل من تنظيم داعش وتنظيم القاعدة زخما يفوق ما كانا عليه سابقا في ظل الفوضى المحتملة.
ومن الأكيد أنّ ذلك سيكون له تأثير على أميركا، حيث أن الأمر لا يتعلق بالنفط فحسب، بل هناك مخاوف أمنية في المنطقة، فما يحدث في الشرق الأوسط لن ينحصر فيه لعقود.
صحيفة العرب اللندنية