المشروع الإقليمي الإيراني والاتفاق النووي

المشروع الإقليمي الإيراني والاتفاق النووي

137_12_1_58798943

عملت إيران منذ انتهاء حربها مع العراق 1988 بصبر وبطء وسرية من أجل الخروج من دائرة “الاستضعاف” إلى دائرة القوة والتمكن، عبر برامج اقتصادية وسياسية وعسكرية.

ثم منحها الغرب والولايات المتحدة تحديدا الفرصة المثالية للقفز خطوات تجاه تحقيق جانب رئيسي ومهم من مشروعها بالمنطقة، نتيجة لحاجة واشنطن للتعاون معها في موضوع احتلال العراق عام 2003، ثم في تحييد شيعة العراق عن مواجهة قواتها هناك بعد الاحتلال.

ولهذا الغرض وبرؤية مسبقة سمحت إيران بمشاركة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (وهو فصيل كانت قد شكلته المخابرات الإيرانية عام 1982) بقيادة محمد باقر الحكيم وأخيه عبد العزيز الحكيم، واستضافت طهران لقاءات بين قيادات معارضة لنظام الحكم في بغداد، أمثال مسعود البارزاني وجلال الطالباني ورئيس المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي.

كما دعمت مشاركة قادة المجلس الأعلى في الاجتماعات مع الإدارة والمخابرات الأميركية عامي 2002 و2003 في واشنطن وبريطانياللتخطيط والاتفاق على الأدوار والمهام الموكلة لكل طرف من الأطراف كالمجلس الأعلى والمؤتمر الوطني والفصيلين الكرديين وحركة الوفاق بقيادة إياد علاوي وغيرهم.

لقد شهد الجميع التمهيد الدراماتيكي لإدارة الحاكم المدني لقوات الاحتلال الأميركي بول بريمر للتغلغل الإيراني الناعم والسلس في العراق من خلال إصداره لعدد من القرارات أنهت شكل الدولة الرسمي للعراق، كان على رأسها إلغاء الجيش العراقي وتسريح القيادات الإدارية والوظيفية تحت غطاء قانون اجتثاث البعث.

ونتيجة لذلك باتت إيران اللاعب الإقليمي الأكبر في المعادلة الداخلية في العراق وظهر نفوذها جليا على الأحزاب الشيعية الحاكمة التي باتت مطلقة اليد في حكم البلاد ثم في رعايتها لعدد كبير من المليشيات الشيعية المسلحة والتي باتت القوة الضاربة الأكثر نفوذا في مجريات الملف الأمني للعراق والتي تعد المسؤولة رسميا عن آلاف القتلى من الكفاءات والقادة والضباط ورجال الدين والكثير من العناوين الأخرى منذ العام 2003م حتى يومنا هذا.

لقد تهاون الإقليم العربي كثيرا في حساب خطر النفوذ الإيراني في العراق حتى باتت المظالم الكبيرة التي وقعت بحق العراقيين عموما، والمقاومين للمشروع الإيراني خصوصا، وكأنها شأن داخلي عراقي، فيما نأت جامعة الدول العربية بنفسها عما يجري هناك من قتل وتدمير عرقي مقيت، وهذا الأمر أغرى الإيرانيين بالمزيد من السيطرة والنفوذ ثم التمدد.

ومع بداية الثورة السورية عام 2011 وتطورها بشكل أوحى بقرب سقوط النظام في دمشق عام 2012 جاء التدخل الميداني المباشر والموسع من إيران، فدفعت بحزب الله اللبناني ليقاتل إلى جانب النظام، ثم أوعزت لقوات من المليشيات العراقية الشيعية مثل لواء أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وغيرها للتوجه إلى دمشق وغيرها للقتال إلى جانب القوات السورية النظامية بحجة الدفاع عن الأماكن المقدسة هناك.

هذا فضلا عن قوى شيعية أخرى قادمة من باكستان وأفغانستان، أما إيران الرسمية فقد بعثت بمستشارين وخبراء في جميع صنوف القوات المسلحة وأنظمة التنصت والرصد والتحقيق ليكونوا جنبا إلى جنب مع قيادات الجيش وأجهزة المخابرات السورية.

إن الموقف الذي أربك المشروع الإيراني الذي بدا واضحا، متمكنا في العراق، ومعينا مهما للنظام في سوريا، هو إطلاق عملية “عاصفة الحزم” من قبل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في 26 مارس/آذار 2015، حين استشعر السعوديون (تحديدا) ملامسة الخطر الإيراني المباشر لأمنهم القومي من الخاصرة الجنوبية للمملكة، حيث سيطر الحوثيون الموالون لإيران، ولولي الفقيه تحديدا، على مقاليد حكم البلاد، بشكل سريع وبتصريحات استفزازية تجاه المحيط العربي، وصوب الرياض تحديدا.

ومع انطلاق “عاصفة الحزم” بدا التوتر واضحا على البيت السياسي والعسكري الإيراني، وبدأ قادة ومسؤولون وإعلاميون إيرانيون بالحديث الهستيري عن هذه العملية وعن دول الخليج والمملكة العربية السعودية، ثم أوعزت إيران إلى عملائها في اليمنباعتماد أسلوب المطاولة في القتال وتوسيع دائرته من أجل إدخال الرياض بحرب استنزاف لا قدرة عندها على الاستمرار بها.

كما أرسلت جنرالها قاسمي سليماني إلى العراق بشكل شبه دائم لتوسيع دائرة النفوذ للمليشيات والأحزاب المحسومة الولاء لطهران، وقطع الطرق أمام أية جهود عراقية للتغيير على ضوء حالة التعاطف والحماس الكبيرة التي اعتلت الشارع العربي تضامنا مع الخطوة السعودية تجاه الحوثيين، وكان السلاح الأمضى في العراق هو ما سمي بـ”الحشد الشعبي” الذي يعتبر من أخطر التشكيلات غير القانونية في المنطقة، وربما في العالم، من حيث طبيعة التشكيل وأهدافه والمتطوعون فيه ومن ثم طبيعة تعامله مع المكونات الأخرى من سنّة أو مسيحيين ولاحقا الأكراد أيضا.

أما في سوريا فقد أوعزت طهران لوكيلها الرسمي في بلاد الشام السيد حسن نصر الله بالدفع بالمزيد من قوات حزب الله الذي يتزعمه لمقاتلة قوى الثورة السورية وللدفاع عن المناطق التي ما زال النظام السوري يحتفظ بها أو التي يحاول استعادتها.

خلال ذلك كله، وبعد أن بدت الإدارة السعودية الجديدة مصممة على تحجيم وإيقاف المشروع الإيراني في الإقليم، لملمت طهران إمكاناتها من أجل التصدي لـ”المشروع” السعودي في المنطقة، فتحركت على صعد عدة، من أبرزها: التوصل إلى اتفاق مع الدول 5+1 على صيغة تكفل استمرار النشاط الإيراني الخاص بالأغراض “السلمية” مقابل مكافآت اقتصادية و”استحقاقات” إقليمية في الدول التي تملك فيها طهران وجودا وتأثيرا فاعلا، أو بمعنى آخر تسليما أميركيا بالنفوذ الإيراني في هذه الدول (العراق وسوريا ولبنانواليمن).

ولعل الاتفاق بصيغته الحالية يذكرنا بنقطة التوازن التي ذكرها المفكر الشيعي محمد حسين فضل الله في حوار أجرته معه صحيفة “النهار” اللبنانية بعددها في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، حيث ذكر “في الواقع فإن الخطوط السياسية في إيران لا تمنع من علاقات مع أميركا، ولكن مسألة التجاذب والجدية بين أميركا وإيران هي مسألة الشروط، إذ تعمل إيران على أن تحافظ على موقعها وعنفوانها واستقلالها بينما تريد أميركا إخضاع إيران على الطريقة التي تخضع بها الدول الأخرى. وأعتقد أن القضية لا بد أن تصل إلى نقطة التوازن”.

ما الذي سيجري الآن، بعد أن سلم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية باستحقاقات طهران في القوة والنفوذ ضمن مناطق تم بحثها وتحديدها بدقة من قبل الطرفين؟ وربما المشهد العام والخاص في الإقليم يعطي دلالات عن التطور اللاحق في المنطقة، وربما من المفيد القول إن هذا التشخيص ليس ضربا من خيال، بل هو استنتاجات علمية ترتكز على ملاحظات الواقع وفروض الزمان والمكان وما يجري بهما.

فمجريات الأمور على الأرض في اليمن تفضي إلى تحقق الصورة التي أرادتها طهران هناك، حرب استنزاف مكلفة ومجهدة لا يمكن أن يحقق فيها أي طرف النصر الحاسم على الآخر، مع تكلفتها الاقتصادية العالية.

ثم هناك في العراق تتطور الأمور بشكل ممنهج حيث بات “الحشد الشعبي” أمرا واقعا يهابه ويخافه كل ساسة العراق ومرجعياته أيضا، وبدا ما كان حديثا هامسا بالأمس، صوتا قويا ومن داخل وزارة الدفاع العراقية، يؤكد أن القوة الضاربة والذراع الإيرانية الممتدة في العراق (مليشيا الحشد الشعبي) والتي يبلغ عدد عناصرها أكثر من مئة ألف عنصر، باتت جزءا من القوات المسلحة التي يرعاها ولا “يقودها” رئيس الوزراء حيدر العبادي، وبالشكل الذي يعني تحديدا تدمير ما تبقى من الجيش الحكومي وتحويله إلى مجاميع تنفذ أوامر الحشد وقياداته.

أما في لبنان فهناك تطورات كبيرة تقودها طهران وممثلها الرسمي (حزب الله) مع الجنرال الموالي لإيران حاليا العماد ميشال عون والذي قال عنه وزير العدل اللبناني أشرف ريفي في تصريح لصحيفة “الشرق الأوسط” في 10 يوليو/تموز 2015 “إن عون يثبت للمرة الألف أنه ليس مرشحا توافقيا، وكما قلت له في السابق أقول له اليوم، إن من يؤمّن الغطاء المسيحي للمشروع الصفوي الفارسي لن يكون رئيسا للجمهورية اللبنانية”.

إن التطور السريع وربما الجديد في المشروع الإيراني في المنطقة يتمثل بتمكين قواها وأذرعها العسكرية الضاربة من السيطرة على الحكم بطرق “غير انقلابية” وإنما من خلال الهيمنة وبسط الشعور بالخوف لدى بقية الفرقاء في تلك البلدان، ففي العراق يجري التحضير لتغيير سياسي شامل عن طريق قيام “الحشد الشعبي” بالسيطرة “البيضاء” على الحكم ووضع واجهات مؤتمرة بإمرته لتشكل الحكومة الشديدة الولاء لطهران.

وفي لبنان، سيستولي حزب الله على السلطة من خلال استخدام الأموال الإيرانية والقوة التي يتمتع بها داخل لبنان عبر واجهات لبنانية مؤيدة للحزب وللمشروع الإيراني ولو ضمن المرحلة الحالية، وبالطبع فإن الوضع في سوريا يشكل مواجهة مفتوحة، لكن السلطة والنظام بيد إيران أيضا، مع إبقاء الحال في اليمن على وضعه حتى ترضخ الرياض للأمر الواقع وتسلم بعدم جدوى المواجهة مع الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح.

إن الرياض تدرك هذا الأمر وتعلم أن الباب بات مفتوحا تماما للصراع المباشر بينها وبين طهران، كما تعلم أن واحدة من ثمار الاتفاق النووي بالنسبة لإيران هو إطلاق يدها في الإقليم، وتمكينها من إحراج المملكة العربية السعودية.

وتلك رغبة أميركية في إعادة الرياض إلى دائرة الخضوع الكامل لتوجهات السياسة الأميركية وتجريدها من أي قدرة على اتخاذ القرار الحاسم والوطني بما يناسب أمنها القومي التي تجسدت خلال فترة تسنم الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور في البلاد.

فارس الخطاب
موقع الجزيرة نت